المنشور

روسيا والحرب العالمية الثانية (2 ــ 3)

* من أشعل الحرب؟
بلغ الجدل التاريخي المحتدم في السنوات القليلة الأخيرة بين روسيا من جهة وبلدان أوروبية غربية وأخرى شرقية كانت حليفة لها ابان الحقبة السوفيتية حول مسئولية ودور موسكو في إشعال فتيل الحرب العالمية الثانية، نقول بلغ هذا الجدل ذروته مع اقتراب الذكرى الـ 70 لاندلاع الحرب التي تصادف الأول من سبتمبر الجاري، وذلك على إثر القرار الذي اتخذته الجمعية البرلمانية لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي في أوائل يوليو الماضي بمساواة الستالينية بالفاشية ومطالبة روسيا بالإقلاع عن مظاهر الاحتفاء بالمناسبات الوطنية السوفيتية وتمجيد الماضي السوفيتي.
أكثر من ذلك فقد أقرت الجمعية البرلمانية الأوروبية ذاتها اقتراحاً بتخصيص يوم الـ 23 من أغسطس من كل عام، وهو اليوم المصادف لإبرام الاتحاد السوفيتي والمانيا النازية معاهدة مولوتوف ــ ريبنتروب عام 1938 بالتزام كل منهما بعدم الاعتداء على الآخر، كيوم لتخليد ذكرى ضحايا النازية والستالينية.
القرار بطبيعة الحال أثار على الفور حفيظة واستياء روسيا، ووصف المندوبون الروس في الجمعية البرلمانية الأوروبية القرار بأنه انتهاك للتاريخ ويرمي إلى تعميق الفجوة بين روسيا من جهة وحليفاتها من البلدان الأوروبية الشرقية السابقة من جهة أخرى، وأنحت موسكو باللائمة بالتحديد على ليتوانيا وسلوفينيا باعتبارهما هما اللتان تقفان وراء إعداد وتمرير القرار. ومنذ ذلك الوقت شنت روسيا ومازالت تشن حملة سياسية رسمية وإعلامية وأكاديمية تاريخية ضارية تستنكر بشدة القرار، كما تستنكر تجاهل البرلمانيين الأوروبيين اتفاقية ميونيخ 1938 بين المانيا النازية من جهة وبريطانيا وفرنسا من جهة أخرى وهي الاتفاقية التي أطلقت يد هتلر لاحتلال تشيكوسلوفاكيا.
كما أبدت موسكو دهشتها من عدم التفات الجمعية البرلمانية الأوروبية ذاتها لما قدمه الاتحاد السوفيتي السابق من تضحيات هائلة في دحر النازية التي كانت تحتل أراضي وبلدانا أوروبية عديدة، وان ما يُسمى جرائم ستالين كان المتضرر منها الشعب الروسي بالذات، وأن هذا الأخير لم يكن يرفض حق الشعوب في الوجود كما فعل هتلر الذي أغرق أوروبا في الدماء.
وكان من أبرز المؤرخين الروس الكبار الذين تصدوا للحملة الأوروبية الرامية لتحميل روسيا مسئولية إندلاع الحرب انطلاقاً من توقيعها مع ألمانيا النازية اتفاقية مولوتوف – ريبنتروب المؤرخ المعروف الكسي بودبير يوزكين. ففي حوار أجرته معه مؤخراً في عشية الذكرى الـ 70 لنشوب الحرب الصحيفة الروسية “أرغومنتي نيديلي” يؤكد بودبير يوزكين انه من الخطأ اعتبار ان الحرب العالمية الثانية اندلعت في الأول من سبتمبر عام 1939، أي عندما غزت الجيوش الهتلرية بولندا. ذلك ان بذور الحرب بذرت قبل عام، عندما وقعت ألمانيا وبريطانيا وفرنسا معاهدة ميونيخ. وبموجب هذه المعاهدة وافقت كل من بريطانيا وفرنسا، على السماح لألمانيا باحتلال تشيكوسلوفاكيا. ويشير المؤرخ الروسي إلى ان الاتحاد السوفيتي كان يعارض تقسيم تشيكوسلوفاكيا، وكان مستعدا للوقوف في وجه الهتلرية، لكن معاهدة ميونيخ دفعت القيادة السوفيتية إلى إعادة النظر في سياستها، وجعلتها مضطرة إلى توقيع معاهدة عدم اعتداء مع ألمانيا، ويلفت المؤرخ الروسي في هذا السياق إلى أن المؤرخين الغربيين يأخذون على الاتحاد السوفيتي توقيعه الاتفاقية المذكورة، لكنهم في الوقت نفسه يتجنبون أي حديث عن المعاهدتين المماثلتين، اللتين وقعتهما كل من بريطانيا وفرنسا والمانيا النازية بعيد معاهدة ميونيخ. وتطرق بودبير يوزكين إلى ما يحاول بعض المؤرخين ترويجه، من أن بولندا كانت ضحية أطماع هتلر وستالين، لكن هؤلاء المؤرخين يغفلون عن قصد حقيقة ان بولندا استولت على قسم من تشيكوسلوفاكيا بموجب معاهدة ميونيخ، وبهذا لا يمكن النظر إلى بولندا على أنها ضحية، فقد كانت في الحقيقة جلادا. ويحذر بودبير يوزكين من مغبة التمادي في تزوير حقائق تلك الحقبة وتداعيات ذلك على الوضع الراهن، مشيرا إلى أن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، أقرت مؤخرا مشروع قانون يساوي بين النظامين: الهتلري والستاليني. وهذا الأمر يمكن أن يكلف روسيا غاليا، كونها الوريث الشرعي للاتحاد السوفيتي، إذ ليس من المستبعد أن يقدم بعض الدول على مطالبة روسيا بدفع تعويضات على غرار ما تفعله ألمانيا، وقد يذهب البعض إلى ما هو أبعد، فيطالب روسيا بتقديم تنازلات جغرافية، الأمر الذي يمكن أن يفجّر صراعات لا تحمد عقباها.
ولكي ندرك جيداً سر حساسية الروس البالغة من تحميلهم مسئولية نشوب الحرب العالمية الثانية وتجاهل دورهم المحوري في تخليص أوروبا من النازية فلعل من المفيد هنا أن نعيد إلى الأذهان أن الحرب اندلعت حينما اجتاحت ألمانيا بولندا في الأول من سبتمبر واستمرت الحرب 6 سنوات وأسفرت عن إبادة 50 مليون انسان في 61 دولة أكثر من نصفهم من السوفيت. ويعتبر الروس أنه لولا تضحيات وبطولات المقاتلين السوفيت لما تم تحرير أراضي 12 دولة أوروبية وقعت تحت الاحتلال النازي، وأن معاهدة مولوتوف ــ ريبنتروب السوفيتية الألمانية لم يسر مفعولها بعدم اعتداء كل منهما على الآخر سوى أقل من عامين، ثم أخلت بها ألمانيا النازية بغزوها المباغت لأراضي الاتحاد السوفيتي في يونيو من عام 1941، أي بعد عامين من اندلاع الحرب. علما بأن روسيا أدانت بشجاعة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي المعاهدة المذكورة، وبعد أن ظل هذا الأخير ينفي وجود بروتوكولات سرية ملحقة بالمعاهدة لتقاسم مناطق النفوذ بينه وبين ألمانيا في أوروبا الشرقية فقد عاد واعترف بوجودها قبيل انهياره عام 1991 وأعاد نشرها، وهو ما لم تقدم عليه بريطانيا وفرنسا بإدانة تواطئهما مع المانيا النازية في اتفاقية ميونيخ.

صحيفة اخبار الخليج
11 سبتمبر 2009