المنشور

نهاية الحقبة النفطية

الأحداث الخطرة التي تجري في كل من السعودية وإيران تشير إلى الصعوبات الكبيرة التي تواجه النظامين، كل من خلال وضعه وظروفه الخاصة.
لقد ظهرتْ الحقبة النفطية وشكلتْ مناخا سياسيا أسطوريا، تصور المستفيدون منه أنه خارج قوانين التطور والسياسة وأنهم فيه سوف يزيلون ما جرى من أزمنة وطنية وقومية وعلمانية وحداثية.
لقد كانوا يسبحون فوق بحر النفط، وأعطت أسعاره المرتفعة وخيراته الوفيرة التي هيمنت عليها الدول، تلك الأوهامَ السياسية التي ارتفعت فوق القوانين السببية للمجتمعات، وتلك المجتمعات تجلبُ من المنافع والبضائع الشيءَ الكثير، فتتبدل حياة المجتمعات البسيطة وترتفع إلى قمم الاستهلاك بعد أن كانت في حضيض العوز والحاجة فتفقد التوازن الفكري، وتضطربُ سياسيا.
كانت السعودية وإيران في قمة دول الإنتاج النفطي وكانتا بَلدين مؤثرين بسبب حجميهما الجغرافي والسكاني، وبسبب التقاليد الدينية التي كرستهما كمرجعين للسنة والشيعة في العالم الإسلامي.
جاء منهما ما سُمي البعثِ الإسلامي والصحوة الإسلامية وغير ذلك من مسميات تعكسُ انقطاعاً عما سبق من تطور في العالم الإسلامي، بدءًا من أزمنةِ النهضة العربية الإسلامية حتى ثورات البلدان الوطنية والتقدمية التي كانت هي أيضاً جزءًا من تطور المسلمين ومن يعايشهم من مؤمنين مختلفين.
صورت فترة الصحوة نفسها كأنها ميلاد جديد وقطع وبعث على طريقة البعث، فهي الحياة وما قبلها موات، وارتكزت على المذاهب النصوصية الحرفية أو العرفانية الإشراقية، مغيبة ما بينها من عقلانية إسلامية واجتهادية فكرية.
لعبت هذه البلدان دوراً في الترويج لهذه الأفكار، وكانت مستوى بسيطاً من فهم الإسلام، ولكن هذه المفاهيم المبسّطة أخذت على أساس لغة جهادية حربية وشكلت تنظيمات وشبكات كبيرة بكل طريقة وبأموال هائلة، وعملت على تبديل المفاهيم الإسلامية السائدة في البلدان الإسلامية التي شكلت قواعد الاستقرار الفكرية والعبادية طوال عقود، وغلبت فهمها عليها، وجيّرت الشبكات العبادية لنشر مفاهيمها وفرض تصوراتها وتغليب أهدافها السياسية، أي فرض المستوى العبادي لبعض سكان منطقة الجزيرة العربية وإيران عن الإسلام، باعتباره الطبعة الوحيدة المقبولة عالميا.
كانت عمليات تعاون دولية كبرى كذلك، فقد وجدت الدول الغربية المتصارعة مع الاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية أن المفاهيم الدينية الإسلامية هي المفيدة في الصراع السياسي، فالمسيحية بمذهبيها الكبيرين لم تعد أداة صراع دولية، وقبلت بالدول العلمانية ومناخاتها، وبأحجام الدين فيها، بعد قرون من ثقافة الحداثة.
وكان بعض الدول العربية قد دخل في هاتين الحداثة والعلمانية وبدأ يتوجه للتصنيع، لكنه ضُرب داخل الصراع العالمي الموجه ضد الاشتراكية.
وصُعدت دولُ الجزيرة العربية وإيران للمسرح العالمي باعتبارهما المتصديتين للشيوعية والكفر العالمي الغربي كذلك، لقد تم استغلالهما بشكل هائل من أجل هذه المعركة الوهمية، التي كانت حقيقية دموية في افغانستان، ومنذ ذلك الحين خرج المارد الساحر من قمقمه.
صار الخطر الإسلامي هو البديل عن وهمية الشيوعية، تلك الخرافة السياسية الكبرى التي تم استغلالها من قبل الغرب الاستعماري، وليس الديمقراطي الحضاري، من جهة المصروفات الدفاعية الخيالية ومن جهة الحروب الاستنزافية ومن جهة تمزيق الجزيرة العربية وإيران والعراق طائفيا، وإشغالها بأسئلة التخريف والأساطير لهذه الجماعات، وبالتفكيك السياسي لها.
بطبيعة الحال فإن مشروعات الاجرام العالمية هذه كانت لها آثارها ليست في المستهلك لها فقط بل في المنتج، في المكون كذلك، فالأعمال الإرهابية في الغرب ذاته، هي جزء من نمو الظاهرة عالميا، من البضاعة التي عادت له.
المارد الديني انقسم طائفيا بشكلين رئيسيين ثم انقسم تقسيمات كثيرة، ومتزايدة، والحديث عن الجنة التي سوف تـُصنع تتحول كل يوم إلى حرائق وجهنمات كثيرة، وتستغل الدول إضافة إلى ما سبق هذه الأجسام الأميبية النارية في تفكيك الحركات السياسية، وتصعيد الميزانيات الأمنية والعسكرية وتغيير الخرائط الوطنية، وتغييب عمليات التغيير والإصلاح الحقيقية وملء المنطقة بالعمال الأجانب.
في النهاية وجدنا البلدين الرئيسيين المنتجين لهذه الظاهرة وهما إيران والسعودية يعانيان آثارها في قعر داريهما؛ إيران تتفكك قيادتها وتدخل في أزمة عميقة، وبوادر حرب أهلية تلوحُ في الأفق، ولم تستفد من الموارد النفطية لتكوين ثورة صناعية، والسعودية تنتشر فيها شبكة الارهاب بصورة مخيفة والكثير من الشباب يقومون بأعمال إجرامية فظيعة.
مليارات كثيرة صُرفت على هذه الحركات الاستغلالية للدين، وعلى نتائج أعمالها، والثروة النفطية تتجه للخفوت وتنتظر أزمتها الأخيرة الكاوية، لكن المستويات السياسية لا تقوم بإعادة النظر والمراجعة في هذا المسلسل الرهيب كله، فقد أوجدت الفترة الكثير من القوى المستفيدة والكثير من الهياكل المتخلفة المحافظة التي ترفض التوجه للحداثة والوطنية والعلمانية والديمقراطية، وتحولَ النفطُ إلى عمارات ومجمعات استهلاكية، وأسلحة هائلة في المخازن وبقع نفط على مياه الخليج ومقابر كثيرة وفيرة وتلوث بيئة وأموال هاربة ومنفعات غربية لا تحد، وأبنية مبهرجة غير معمرة، وعمالات استنزافية، وديكورات سياسية زائفة، وسراب خليجي جزيري إيراني عن ثورات وكفاح عظيم، ولكن ثروة هائلة نادرة تبخرت.

صحيفة اخبار الخليج
11 سبتمبر 2009