المنشور

الليبرالية والإسلام السياسي (2 – 2)

إن العلاقات المعقدة بين ما هو وطني وقومي، وما هو إنساني، بين تكريس حرية الأفراد داخل الإنتاج والثقافة، لا تتحقق لدى كل التيارات.
ومن هنا فإن الليبرالية التي تريد حريات يجب أن تقوم بقراءاتها ودرسها، سواء في المجتمع الذي تعمل من أجل تغييره، أم داخل الماضي والتراث، اللذين يحكمانها ولا تستطيع أن تتجاهلهما.
والحريات التي تدعو إليها يجب ألا تكتفي بالحريات الثقافية والاجتماعية، من دون الحريات الاقتصادية والسياسية، فمن دون شبكة الحريات تغدو مختلة، وهذا أيضاً يبعثر فئاتها الوسطى في الاقتصاد والثقافة والحياة الاجتماعية بعضها بعضا، وهي كلها قوى واحدة تصارع بعضها بعضاً لأسباب فكرية.
وإشكالية الجماعات المذهبية السياسية (التي تـُسمى لدى الليبرالية الإسلام السياسي)، ليست فقط في الصراع مع الحريات الاجتماعية خاصة عند النساء وتجاه الثقافة الحديثة ونشر العقلانية، بل هي في تكونها بشكلٍ غيرِ إسلامي عام وطني، أي انها تكونت كجماعاتٍ مذهبية سياسية مرتبطة بالسلطات في البلدان الإسلامية، فهي نتاج الدول، وما هو نتاج الدول تقل معرفته بفهم الحرية، فهي تشكلت لدى الحكومات التقليدية في المنطقة، سواء في إيران أو السعودية أو مصر أو غيرها، وتشكلت في زمن الانقسام الوطني في كل بلد، وهي تحملُ الانقسامات لبلدان أخرى كذلك، وقد كانت دائماً ناتجة من هذه الإدارات الحكومية.
فهي دائماً موالية لدول، ولم تستطع أن تكون معارضة إسلامية مجردة، لمصالح المسلمين الكلية، تنقدُ الخطأ أينما يكون، فهي دائماً تابعة لدولة. لسانها طويلٌ في جهةٍ ومقطوع في جهة أخرى، والتابعُ لا يصيرُ معارضاً بل يغدو دائماً متهماً بالتبعية للغير، وإذا بزتهم القاعدة على إجرامها فلأنها غدت (ذات لسان لا يقطعهُ أحد).
أي أنها تجد نفسها دائماً محل تفكيك لصفوف المسلمين والمواطنين عامة وليس لتشكيل وحدة بينهم، وسواءً على مستوى القومية والوطنية أم على مستوى الجنس(ذكوراً وإناثاً) أو على مستوى الثقافة: (قِدمٌ فيه الإيمان وحداثة فيها الكفر).
ومن خلال حركات سياسية كهذه تتفكك الشعوب وتتفتت حركاتُ التغيير.
هناك تعميمٌ صحيحٌ يتعلقُ بمحافظة الحركات المذهبية السياسية الذكورية وانتمائها إلى الطبقات القديمة التي سيطرت على المسلمين في العصور السابقة فيما بعد الحضارة التي سادت فيها هذه المذاهب، وأبقتهم متخلفين، وقادت صراعات كذلك ضد الهيمنة الأجنبية، وضد الحداثة، وهي تشمل المعارضات المذهبية والحكومات المذهبية كذلك، وهي هي نفسها لا تتبدل سواءً ظهرتْ في هذا البلد أو ذاك، لأن مضمونها الأساسي لا يتبدل، بسببِ سيطرةِ شيوخ الدين الكبار بمناهجهم التقليدية، والنادر منهم من قاومها وانتمى إلى الإغلبية الشعبية.
ولهذا فإن التعميمات ماعدا ذلك تكون محفوفة بالمخاطر، وكل بلد يحتاج إلى تحليل وكل حالة لها ظروفها، وفيما أن الحركات المذهبية تنقل لافتاتها وتجاربها من بلد إلى آخر، وتشتغل على استعادة المجتمع المحافظ، وبقاء العلاقات الذكورية المتسيدة المهيمنة، وحالات الانغلاق الديني، فإن كل بلاد لها صراعاتها وخصوصياتها.
فبعضها يرتبط بفئات وسطى تريد التحرر، وبعضها يرتبط بقوى سيطرة حكومية تريد الانغلاق، أو أشكال أخرى متداخلة.
كل تنظيم ديني له قوة مستبدة فوقية لا تريد تشكيل حركات حرة على مستوى: تحرر النساء، وتحرر الثقافة العقلية من الأنماط المذهبية والأغلال، وبتشكيل الحريات هنا تفقد سيطرتها على الأتباع وعلى منتجات هؤلاء الأتباع.
لكن الحداثة لا تستهدف الفجور، والحريات لا تريد الفوضى والإباحية، بل تريد تصنيع المجتمع وتحويل قواه إلى عاملين، وبدلاً من جلب القوى الأجنبية لماذا لا نتحول نحن إلى صناع؟ لماذا نستورد دائماً الأجهزة؟ ثمة مجتمعات متخلفة مثلنا قامت بالتصنيع الواسع.
تـُفهم الحداثة عادة من قبل القوى السطحية في الجانبين الديني والعصري بأنها مجرد حريات شكلية وفردية خارجة من كل القوانين.
يعكس الجانب “النهضوي” الرغبة الشديدة في الإنتاج، وليس في التركيز في صراع الحجاب والسفور، وفي العادات العبادية، وضرورة إبعاد المسائل عن الصراعات الجانبية هذه، والليبراليون يتدفقون بقوة في الحديث عن هذا ويصوغون هجمات مستمرة ضد الحجاب والعقوبات التي تقوم بها أنظمة الاضطهاد الدينية بشكل متعسف، وغيرها من المظاهر ورغبتها هي في زوال مثل هذه الظاهرات.
وفيما أن الاضطهاد شيءٌ جائر لكن الحجاب هو لباس شخصي للمرء له حرية في لبسه أو عدم لبسه، ونقول للمرء لأن ثمة رجالا مسلمين يتحجبون كذلك(الطوارق). أي هي مسائل راجعة إلى الاختيارات والعادات، ولكل إنسان أن يقرر ما يلبس من دون إساءة للذوق، وهي الحرية الفردية المطلوبة من دون أجهزة تفرض اللباس.
أما قضايا الاضطهاد والعقوبات والحدود فهي مسائل تتعلق بمدى تطبيق حقوق المواطنة، وقد قامت الدولُ منذ انتهاء عهد الخلفاء الراشدين بنفي الحقوق عمليا وبالاستبداد بالأملاك العامة وتخصيصها فتقع الحدودُ في شكوك وتعود للحقوقيين يقرأونها بموضوعية مفترضة.
أي أن المسألة بحاجة إلى تغيير عميق وإلى إعادةِ الأملاكِ العامة للمسلمين لتنمو آثارها في حياتهم وبعد ذلك تتكيف العقوبات والقوانين مع هذا التغيير.
وبغض النظر عن إيماننا أو عدم إيماننا بهذه العادات والمواريث فإن الديمقراطية العصرية تتطلب احترامنا لأصوات الناس، ولعدم تحولنا إلى شيوخ دين تقليديين يعيدون السيطرة نفسها لكن بأشكال حداثية ويجبرون الناس على التزام اللباس المحدد والأشكال المقبولة لدى الحكومة وعادات الحداثة المقدسة.
وبهذا فإن العلانية وعدم الإجبار ورفض قيام البابوية وفصل الدين عن السيطرة الحكومية الاستبدادية، سواء تجلت في حزب أم في دولة، من دون شطب تراثنا، وتوجه الأحزاب لتطوير الإنتاج وإيجاد الثورة الاقتصادية وتطوير حياة الناس المعيشية وتقليص البيروقراطية وتخفيت أصوات الحكومات في الاقتصاد والتحكم، هو ما يمكن أن يشكلَ خطوطاً عريضة للقوى الليبرالية المختلفة سواءً كانت من أصول ليبرالية وتقدمية أم من أصول دينية. فثمة مجرى للحرية مشترك لتطوير الشعوب يمكن أن يتجمع فيه كثيرون.
وبدلاً من أن نكون كرات تتقاذفنا أرجلُ اللاعبين من الشرق والغرب في كل مرحلة، وقوى الهيمنة من كل صوب، لتتجمع العناصر الفكرية والسياسية لمجرى عريض مشترك يحفر في الحرية ويؤسس لدول متقدمة.

صحيفة اخبار الخليج
8 سبتمبر 2009