المنشور

ماذا بإمكاننا أن نكتب .. وماذا نقول ؟!

كنت منذ وقت طويل – كوني كاتباً على اقل تقدير واتعاطى مع الصحافة بشكل متزن ومقنع – ولكنني كنت اطرح سؤالا يلازمني.. هل أنت كاتب حر؟ في عالمنا العربي خاصة. وعندما تكتب هل تشعر بأنك مضطر للمجاملة أو البحث عن المسالك الآمنة؟ لماذا تضغطنا الكتابة الحرة، سواء رقابة ذاتية أو خارجية، سياسية ومؤسساتية وثقافية بيئية تفرضها أنماط ثقافية سائدة في مجتمع متخلف وطائفي ومتزمت. كثيرا ما تدور في الروح والعقل أسئلة منهكة، بل وتجد تبريرا لها لدى كتاب كلمة آخرين مثلك؛ هم بشر تضغطهم الحاجة ولقمة العيش، ويفضلون المشي بمحاذاة الجدار الآمن. غير أن هناك طابورا من الأقلام تتفنن في كل جريدة حسبما تقتضيه “الكلمة المأجورة”. مثل هؤلاء الكتاب والصحفيين هم طابور من الفاسدين الأقرب لأخلاقية الموظف الرفيع في الجهاز الفاسد وبلا ذمة. ورغم أن مساحة الحريات الكتابية – والى حد ما – مختلفة من بلد إلى آخر – اتسعت مجالاتها وأسقفها، ولكنها عند نقطة ما تصطدم الكلمة الحرة النقدية أمام ذلك الجدار الشاهق والأسوأ عند بوابة الموظف البيروقراطي المرتعب فوق مقعده من غضب مرؤوسيه فيطير المقعد وتطير معه الوجاهة الاجتماعية. ما يهم من يعانون من ضغط الحياة من القراء ماذا تكتب وترضي من؟ المهم أن يصبحوا هم معك وبك بشرًا يقرأون كلمة حرة في عالم يموج بمواقع الانترنت الحر إلى ابعد مساحاته في الحرية وفي قول ما لا تستطيع الصحافة “المقيدة” النصف حرة أو اقل من ذلك فعله في زمن الثورة المعلوماتية. ما نراه اليوم أمامنا من سيل المكتوب والمنقول من الأخبار يجعلنا نرتبك عندما نود كتابة موضوع يرضي ضميرنا ويقنع الجمهور بحياديتنا ونزاهتنا في تقصي الحقيقة والبحث عن حلول منصفة لكل ما هو متناقض بين أطراف متصارعة. ما فجرّ عندي هذا الشعور السلبي مؤخرا تلك الأزمات المستعصية والسيئة في البلدان العربية، التي كلما دخلت الأنظمة فيها صراعا دمويا وعنيفا مع شعبها أو شرائح منه أو حتى كتل وتيارات، نجد أنفسنا نتوقف أمام ذلك السؤال المضطرب ماذا نكتب وماذا نقول؟ ولو مررنا بشريطنا الإخباري العربي لوجدنا أن مساحة ما نقوله وما نسمعه ربما يغضب جهات رسمية اعتادت أن تسمع خطابا يمجد الزعيم والقائد والتاريخ المجيد للانجازات، فيما تربكنا الأخبار الأخرى القادمة لنا من المنظمات الدولية المدافعة عن حقوق مدنية وسياسية لدى الشعب، الذي تعتبره شعبك العربي الكبير، فهل تركن إلى الصمت الأبدي لكونك عجزت عن قول الصدق وخنت ضميرك الحر؟ أم تسبح في فضاء سياسي واسع بحيث تبذر ولو قليلا من مادة الوعي الإنساني لكون قناعاتك إن الحقوق الإنسانية دوليا في هذا القرن ستكون مختلفة. وبأن من تعاطوا الحياة السياسية الرسمية وتجمدوا فوق مقاعدهم دهرا، عليهم إعادة النظر والقراءة التاريخية لواقعنا الراهن، فلا احد من الساسة العقلاء يلجأ إلى جبل الماضي ومجده ليحميه من “الطوفان”. ربما الثروة والسلطة تخلق قوة الفساد ومجالاته، وتبني حصون عالية من مؤسسات العنف والقوة المجسدة في أجهزة الأمن والجيش وطابور الموظفين الفاسدين، الذين كلما رتقت ملابسهم أعادوا خياطتها لرئيس جديد قادم في تلك المؤسسة. محنتنا إننا لا نستطيع أن نكتب كما يكتب كاتب حر في عالم حر، بل ولا يتيح لنا أصحاب الشأن أن نقول تلك الحقيقة إلا عندما تتوتر تلك الثنائيات السياسية والمصالح بــين البلديــن أو الطرفين. فماذا بإمكاني أن اكتب بنقد موضوعي عن ما يدور في اليمن من صراع دموي بين النظام والحوثيين، من وجهة نظر ثالثة، مختلفة لا تنتظر بيانا رسميا ولا رئيس تحرير بائس يحاول طمس الحقيقة في قناة فضائية ، مثلما لن نلجأ إلى الدفاع عن حركة لم تهتم بكيفية إدارة الصراع مع النظام فكان الضحية الأولى لثنائية هذا الجنون هو الناس الأبرياء. هل نتفق على مفردة التطهير والإبادة؟ بالطبع لن نقبلها كمراقبين لضمير الكلمة لأن الغضب السياسي لا يطهر العالم كما إن التصريح الجنوني من الحوثيين بوهمهم أنهم قادرين على حرب الاستنزاف، لن تجد نفعا حتى وان تم اتهام طرف ثالث بتزويدهم، فبدت المسألة واضحة تثير استغرابنا.. هل هي حرب ضد حركة سياسية تتمظهر بالطائفية والأمامية أم حرب ضد طائفة بكاملها بحرمانها من حقها المشاركة المتساوية على أسس دستورية ومواطنة، فاليمن كوطن حق للجميع، فما حدث في اضطرابات الجنوب وكان بالإمكان أن تشتعل جباله كما تشتعل جبال صعدة لولا اقتناع الجنوبيين بضرورة المواجهة على أسس المعارضة المدنية. ماذا لو انتقلت الحرب الأهلية إلى مواقع مختلفة من اليمن؟ هل سينفع بعد التدمير والدمار العودة إلى خطاب تقليدي “تعالوا نجلس للحوار” ولكن الحوار قد تأخر وكان ينبغي أن يتم مبكرا لحقن دماء الناس. هل نكتب بخطاب ورؤية ثالثة ليست مع هذا وليست مع ذاك ولكن الطريق الثالث اللصيق بالحقيقة، حيث إن الأنظمة العربية تدخل في نفق الأزمات تدريجيا حتى وان لم تتم المواجهة بالسلاح بين الشعب والنظام. ما يحدث في مناطق عربية عدة من تجاوزات لحقوق الإنسان واعتقال الناس وإجبارهم تحت التعذيب على الانحناء والقهر بأكثر مما هم عليه خارج السجن، لن ينتج وطنا هادئا وراضيا ومستكينا إلا في الظاهر، ولكن.. تحت الرماد هناك مرجل يغلي لهيبا ينتظر الانفجار. لا اعرف كيف يساق الإنسان إلى قاعات المحاكم تحت قوانين الطوارئ وقضاة من العسكر ثم ترفع الحكومة عقيرتها بأن هؤلاء مجرد إرهابيين أو مشاغبين تجاوزا القانون، في وقت ما عادت الدولة دولة قانون!! وبمثل ما نحاول إقناع أنفسنا نتوهم إننا قادرين على إقناع الغرب بجريرتنا العظمى وتناقضات أنظمتنا العجيبة التي نخرها الوقت ففي كل جزء من أجزاء النظام وجسده هناك أورام كبرى تعّده للموت إن لم يستأصل الأورام الخبيثة الممكن علاجها مبكرا.
 
صحيفة الايام
8 سبتمبر 2009