المنشور

المجالس في مركز صنع الرأي السياسي

روى أحد شيوخ الناشطين السياسيين في البحرين رسول الجشي ذات مرة أن أميركياً زار البحرين فيما بين أواخر التسعينات وقبل مبادرة جلالة الملك الإصلاحية، وخرج بانطباع أن الرأي السياسي الشعبي في هذه البلاد يُصنع في ما أسماه بـ (3) – المساجد، المآتم والمجالس الشعبية (الديوانيات). والانطباع صحيح إلى حد بعيد. ولا يزال هذا الثالوث يلعب أدواره، لكن بطبيعتين مختلفتين. رغم ما كان للمؤسسات الدينية من دور فاعل في استنهاض وتعبئة الجماهير، خصوصا في ظروف غياب القوى والمؤسسات الديمقراطية، إلا أنه كما كان كذلك ظل يطغى عليها طابع الاتصال في اتجاه واحد، أي أن الجماهير تستمع، تتلقى فقط. كما أنها بحكم تكوينها المذهبي ظلت طائفية الطابع أيضاً. أما المجالس رغم أن روادها أقل بما لا يقاس، لكنها كما كانت كذلك ظلت وسيلة للاتصال التفاعلي في الاتجاهين بحيث يمكن أن يكون الشخص مرسلاً ومتلقياً في آن. وهي شعبية حقاً إذ أنها، ومهما صنفنا صاحبها لا تقتصر على طائفة أو منطقة بعينها، ولا حتى على اتجاه سياسي معين. ولذلك فقد صارت محافل للنقاشات الحرة الساخنة ومطارحة وتبادل الرأي والرأي الآخر، ما ولد وأطلق مبادرات سياسية هامة كالعريضتين النخبوية والشعبية في السنوات الأولى من التسعينات. غير أن مجالس بهذه الطبيعة كانت تعد على أصابع اليدين.
بعد إطلاق العملية الإصلاحية كان من الطبيعي أن يبدأ مركز الثقل في صناعة الرأي السياسي العام بالتحول تدريجياً من ثالوث (3) إلى رباعي ميمي (4) آخر – المنظمات السياسية، سواء التقليدية التي طفت من السرية إلى العلن، أو التي طرأت على الساحة السياسية لأسباب مختلفة في زمن الإصلاح، المجتمع المدني، وخصوصاً النقابات والجمعيات الحقوقية، النسائية، الشبيبية، وغيرها، مؤسسات الصحافة والإعلام والمؤسسة التشريعية المنتخبة.
الثالوث والرباعي الميمي متعايشان في الوقت الحاضر. لكن ثالوث (3) يشهد تفاقم تناقض مكوناته. فبينما لم تتغير طبيعة المؤسسات الدينية والخطاب الديني – السياسي إلا ما ندر، بل إن غالبيتها أصبح يغالي في الانغلاق على الذات تحت حجة ظاهرها عدم التمكين وجوهرها الفزع من الرأي الآخر، فإن المجالس منذ بداية الألفية شهدت تطوراً كبيراً على المستويين الكمي والنوعي. وغدا كثير منها ليس مجالا للأحاديث العفوية، بل للنقاشات الأكثر تنظيماً وتوجيهاً والتي أصبحت تعكس وعيا جماهيريا أكثر سعة وعمقاً. وفي السنوات الأخيرة درج عدد من المجالس الشعبية على برمجة مجالسه بشكل مسبق فصارت تأخذ شكل ندوات ومحاضرات متخصصة أو شكل مواجهات مباشرة مع مسؤولين في الدولة أو الأحزاب الوطنية أو الجمعيات الحقوقية والمهنية.
التطور الأكثر أثراً في حياة المجتمع هو أن المجالس الشعبية أصبحت تكتسب أهمية خاصة في شهر رمضان المبارك، بل إنها اكتسبت تسميتها الخاصة – المجالس الرمضانية. وصارت في السنوات الأخيرة تتصدر قائمة (ميمات) صنع الرأي السياسي الشعبي. وحتى أن أجهزة ووسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية أصبحت تجد مادتها الغنية في النقاشات الدائرة في المجالس الرمضانية. وإليها يسعى ممثلو التنظيمات السياسية لطرح رؤاهم في مختلف القضايا. وفيها وجد ممثلو السلك الدبلوماسي الأجنبي مجالاً للتعرف على قضايا المجتمع البحريني عن قرب. كما وجد كثير من مسؤولي الدولة في المجالس الرمضانية مجسا لنبض حياة المجتمع وقضايا وهموم المواطنين. كما وجد معهد البحرين للتنمية السياسية في هذه المجالس أرضا خصبة لأداء وظيفته ورسالته الاجتماعية، حيث درج منذ رمضان الماضي على تنفيذ برنامج ‘الثقافة السياسية في المجالس الرمضانية’. وللأفراد طموحاتهم الخاصة أيضاً، فالمجالس مجال خصب لكي يروّج من ينوي خوض الانتخابات النيابية أو البلدية 2010 نفسه، أو لأولئك الباحثين عن مكانة اجتماعية أو وظيفية.
وأيا كان الموقع الجغرافي أو انتماء القائمين عليها إلا أن المجالس الشعبية والرمضانية خصوصاً لم تعد تعرف الحواجز المناطقية والقبلية والطائفية والسياسية، بل إن الجميع يحاور الجميع بين جدرانها. أما الاقتحام النوعي الجديد فهو أن قلة من المجالس بدأت تكسر حتى حاجز الفصل بين الجنسين لتضمهما في مشهد يشهد على أن المجالس تسجل ظاهرة جديدة من الرقي الحضاري لمجتمعنا. وبهذا أثبتت المجالس الشعبية أنها أكثر ثالوث صنع الرأي السياسي الشعبي لما قبل الإصلاحات قدرة على التكيف لتصبح عاملاً فاعلاً إلى جانب (4) في صنع الرأي السياسي والتأثير على صنع القرار السياسي في عهد الإصلاحات. بل إن المجالس تجد كل ألقها لتتصدر العوامل الأخرى في شهر رمضان المبارك.
أجد أن أذنيّ تطربان حقاً لسماع المثل الذي يردده تلفزيون البحرين هذه الأيام ‘اللي ما تعلمه المدارس تعلمه المجالس’.
 
صحيفة الوقت
7 سبتمبر 2009