المنشور

الليبرالية والإسلام السياسي (1 – 2)

في مخاض تحول الرأسماليات الشرقية تقع في تناقض بين القيود والحريات.
رأسماليات الدول المسيطرة تنشئ قيوداً أساسية حول الثروة الرئيسية وحول الحريات والثقافة، باعتبار الدين أحد الأشكال الرئيسية للثقافة.
كما أن الرأسماليات الخاصة رأسمالياتُ نتاجِ الدول ونتاجات العائلات التجارية التي أتاحت لها التجارة قديماً إمكانيات اقتصادية قبل ظهور الدول الرأسمالية الحكومية بهيمنتها الشاملة.
وهي لهذا تعيش على ليبرالية محدودة تتركز على التجارة وحرية الأموال.
لا يمكن لليبرالية أن تزدهرَ إلا بازدهار الملكيات الخاصة لوسائل الإنتاج الكبيرة، وهذه غير ممكنة حاليا، ويمكن أن تصيرَ في المستقبل، ولهذا فإن الليبرالية الكاملة غير ممكنةٍ، وتجري في مخاض تطور المجتمعات الشرقية لتثوير وسائل الإنتاج ولجعلها في المستويات العالمية، وهي بحاجة إلى تثوير العلاقات الاجتماعية، ولتجعل النساء والرجال يعملون بازدهار كامل، كما هي بحاجة إلى أن تزدهر معارفهم لتكون بمستوى علوم العصر وتقنياته.
ولهذا فإن الرأسماليات الحكومية التي تحجزُ تطورَ قوى الإنتاج في أشكالٍ بيروقراطيةٍ مُعرِقلةٍ، منتجةٍ ومهلكةٍ للثروة في آن، تساندُ علاقات اجتماعية كبيرة ولا تريدها أن تنمو وأن تتحرر، كالأنماط القبلية والمذهبية والأبوية، وتحجم كذلك الحريات الفكرية والاجتماعية.
وأي تطورٍ تريدهُ هو في ملاءمةٍ مع الأشكال الاقتصادية العامة، لكن الحياة الاقتصادية تتطور بأشكال خاصة كثيرة، والازدهار الديمقراطي الغربي والثقافة الليبرالية العالمية يقتحمان كلَ مكان، مما يؤدي إلى تزحزحِ أشكالِ الجمود والاستبداد الشرقية المختلفة.
وأي جمود عنيف في هذا الصدد يؤدي إلى جنون اجتماعي واضطراب سياسي كبير، فقوى الإنتاج تريد التغيير وأشكال الملكيات الحكومية والبنية الاجتماعية التقليدية، تعرقلان التطور.
ولهذا فإن الأحاديث عن الليبرالية في المجتمعات العربية الإسلامية يتخذ طابع الغموض والعموميات، فلا تـُعرف أحجامُ الحرياتِ المطلوبة وأين، وتتناقض قوى اجتماعية عديدة حولها، تبعاً لمستويات تطور كل منها. فكلُ شيءٍ يدور عبر الغموض والتداخل الاجتماعيين.
وقد كانت دائماً القوى الحكومية معنية بمستوى معين من الحريات الاقتصادية والاجتماعية، بسبب ظروف الدول المضطرة للعلاقات الدولية والتجارة، حتى في الدول العربية الإسلامية القديمة كانت الدولُ أكثرَ مرونةٍ تجاه العلاقات الاجتماعية فتبيحُ حرياتٍ عديدة في هذا الجانب، وتضيق على الحريات السياسية والفكرية بصورة أشد، لكنها لا تسير للحد الأقصى وأن تتبنى الحرية كلية.
في حين كانت الجماعات الدينية أكثر تشدداً تجاه العلاقات الاجتماعية، فهي تعتبرُ الأسرَ العائلية مركز سيطرتها الاجتماعية، وتغدو الأحوال الشخصية وقضايا الفقه المتعلقة بها، حصنها الحصين، ومن دونها لا تبقى لها سلطة، وإذا جرى ذلك تنتزع الدولُ كلَ السلطات منها، في حين أنها تجاه الحريات السياسية أقل تشدداً لأن ذلك باتجاه الدول لا باتجاهها.
لكن الاختراق العالمي التحرري هو موجه كثيراً نحو العائلة، فهو الباب السري الذي يجرى من خلاله كل انقلاب سياسي، التي تغدو حرية الأفراد فيها هي جوهرها الحقيقي، باعتبار هذه الحرية تطورا رأسماليا، مفككاً للقبيلة وللمذهبية والوطنية الجامدة والحزبية المغلقة، وإذا كان إنتاج ذلك غربيا معتمدا على إنتاج متطور، فهو في الشرق يغدو أحياناً أقرب للتحلل والضياع الفردي لكونه لا يرتكز على إنتاجية أفراد بل على استيراد فوقي واستهلاك.
لقد ظهر كلٌ من الليبرالية والإسلام السياسي كقشرتين على جلد المجتمع، في لحظة ظهرت العائلة والدولة والكيانات الحديثة، الموجهة للتطور من قِبل الغرب، وأي ظاهرة سطحية “وليدة” لابد أن تكون مليئة بالشعارات العامة، وخالية من الدرس، وذات حماسة، وكانت إحداها تريد الحرية والأخرى تريد الماضي، الأولى تريدُ العصرَ والأخرى تريدُ التراث، إحداها قادمة مع البضاعة الغربية والثانية نتاج الأدوات السياسية القديمة التي هيمنتْ على المسلمين من دون أن تـُحدثهم.
أي أنهما تشكلتا كنقيضين، لا يُدركان أن ثمة وحدة بينهما، وهي وحدة لا يصنعُها سوى التطور غير المرئي لهما.
ومن خلال التضاد المجرد الحاد بين ما يُسمى “الليبرالية” و”الإسلام السياسي”، سنجدُ أنفسنا بين حداثيين معادين لتاريخ المنطقة وتراثها، وبين حركاتٍ سياسيةٍ تتلبسُ الإسلامَ لتعارض الحداثة، وهما بناءان هشان قابلان للاستغلال من قبل القوى العالمية والمحلية المتنفذة.
في بداية ما سُمي العصر النهضوي الحديث كانت رافعة السيطرة الغربية مهمة لليبرالية، لكي تركضَ في ساحة الشرق، ثم كان صعودُ “الاشتراكية” فرملة وطنية شرقية لهذه الليبرالية التي أُعيدتْ للقعر، فكان أن صُعد “الإسلامُ السياسي” كعدوٍ للاشتراكية، فقد كانوا بحاجة إلى نقيض، وليس إلى قريب، ثم وجدوا انه من الضرورة أن تصعد الليبرالية بعد أن تعملقَ الإسلامُ السياسي.

صحيفة اخبار الخليج
7 سبتمبر 2009