المنشور

أزمة الطبقة الحاكمة في إيران

دخلت الصراعات السياسية في إيران مرحلة بانورامية واسعة، مثل شاشة كبيرة مليئة بالألوان السياسية المتداخلة المتصارعة، بين تظاهرات نخبوية خلاقة مستمرة، ومحاكمات تتردد بين الشدة والتسامح، ورئيس متصلب يصعد ويثبت قوته يوماً بعد يوم ويبدو في كيس مشترك صاعد مع الضباط الكبار في الحرس “الثوري”، فيظهر دور جديد للمراجع الشيعية الكبيرة ذات التوجهات الديمقراطية.
والجانب الأكثر إثارة هو بروز خلاف بين المرشد الأعلى ورئيس الجمهورية، حيث يقوم المرشد بتقليص سيطرة الرئيس ويخلق توازناً بينه وبين البرلمان والقوى الأخرى، فيما يندفع الرئيس في سياسة ملونة بين مغازلة حكومات الغرب المتصاعدة والغريبة لديه وبين قمع المعارضة الديمقراطية الدينية.
مثل أي رأسمالية حكومية شرقية يتركز الصراع إما في الطبقة الحاكمة، وإما بين الطبقة الحاكمة كممثلة لهذه الرأسمالية الحكومية العامة وبين الرأسمالية الخاصة، أو في الحالة الثالثة بين الرأسماليتين العامة والخاصة وبين الأقاليم المتمردة على سيطرة العاصمة والمدن الكبرى.
وإذا كانت هذه الحالاتُ الثلاث مُضمرةً في كلِ صراع اجتماعي شرقي كبير فإن تطور علاقات الإنتاج المحددة في كل بنية اجتماعية، يحددُ الحلقة في كل بنيةٍ، أي في كل بلد حسب تطوريه الاقتصادي والاجتماعي.
وإيران تنطبقُ عليها صراعاتُ الطبقة الحاكمة الرأسمالية العامة، بين توجهيها: القوى العسكرية مالكة الشركات الحربية والصناعية، التي يقع الحرسُ الثوري في بؤرتِها، وبين القوى الرأسمالية الحكومية المدنية، التي تريدُ لجمَ التمدد العسكري الصناعي، والعودة للحكومة المدنية السلمية، وهي التي تتمثل بمرشَحي الرئاسة الخاسرَين.
فما تعترض عليه قيادة الحرس الثوري تجاه موسوي ليس ليبراليته أو تدينه بل غموض سياسته تجاه التصنيع العسكري، وعدم تأييده لها في ذلك بصريح العبارة، في حين أن منافسه يصر على ذلك.
إن ذلك مرتبط بمسائل المواجهة الزائفة مع الغرب وإسرائيل التي تتخذ حجة في إدامة مثل هذه المشروعات العسكرية الواسعة، ولكن لا يوجد خلاف على مسألة المشروع النووي، مما يعبر على اتفاق عام وطني هنا.
لكن تقليص المشروعات العسكرية يعني انتقال جناح السلطة للمدنيين، وهو أمرٌ تؤيدهُ بقوة جماهير الشعب، ويترتب على هذا الانتقال تغيير أولويات الدولة، وانتقالها من عالم المواجهة مع ما يُسمى محور الاستكبار، إلى العلاقات الطبيعية مع دول العالم.
إن غياب مصطلحات المواجهة وعالم الاستكبار والعنف من خطاب موسوي وتركيزه في الإصلاح والتنمية وتطوير الحريات في مصطلحات عامة مجردة، يشيران إلى القوى البيروقراطية الحكومية وهي تعيدُ أولوياتِها في عالم الرأسمالية الحكومية الإيرانية، التي تواجه صعاباً كبيرة في التطور الاقتصادي، لكنها تحافظ على هذا التوجه الرأسمالي الحكومي، ولا تريد الخروج منه، وهذا يتشكل لدى موسوي كسياسة (اشتراكية إسلامية) على غرار الخلافة الأولى.
إن الصعوبات الاقتصادية غدت كبيرة كتراجع مداخيل النفط التي يتوجه أغلبها للتسلح، وتردت محاصيل زراعية عديدة خلال السنوات الأخيرة، رغم التطورات التقنية في مجال الزراعة. إن استقرار الأرياف يلعب دورا مهما في استقرار السلطة في العاصمة، والفساد في القطاع العام يمثل هدراً كبيراً آخر في الاقتصاد. هذا كله يعيد صورة زمن الشاه نفسها، حيث تفاقم الأزمة الاقتصادية خاصة في الريف، لكن كانت الحريات الاجتماعية تخفف من قبضة الشاه الحديدية، بينما النظام الديني الشمولي يفتقد مثل هذه الحريات الاجتماعية التي تنفس عن الناس.
هذا ما جعل البيروقراطية الحكومية تبحثُ عن مخرج للأزمة، مخرج إعادة الأولوية للقطاع المدني، والتنفيس عن الجمهور وخاصة الشباب المحتدم بالرغبات الحديثة الذي صار يتابع الإعلام الغربي بتوسع، وبضرورة إعادة مداخيل مهمة للريف وتنميته، وتوسيع حضور النساء في الحياة الاقتصادية والسياسية.
لكن نجاد كممثل للحرس الثوري التف على هذه السياسة الشعبية المعارضة، الطفيفة في تحولها، عبر تخفيف لهجة الصراع مع حكومات الغرب وإسرائيل، ومغازلة الاتجاه الحديث بتعيين النساء في وزارته، والاصرار على وجود صهره المؤيد لحكومات الغرب، الذي صار شخصية محورية في الحكومة، كما استمر في تكسير رؤوس المعارضة.
استطاع الجناح المسيطر على الأدوات الدينية الكبرى والسياسية والعسكرية أن يتوه الجناح المعارض عبر جملة من الإجراءات السياسية التي تبدو بين الانفتاح والتشدد، وبين التسامح والقهر، لكنها تخدم عملية تفكيك صفوف المعارضة، وتجذب قطاعات شعبية معارضة، وتكرس نهج سيطرة الحرس الثوري على الحكم، وبقاء إيران في خندق “المواجهة” النازفة لاقتصادها.

صحيفة اخبار الخليج
6 سبتمبر 2009