المنشور

العم توم يغادر كوخه للبيت الأبيض

استغرق العم توم قرونا طويلة لكي يغادر كوخه نحو المجهول، ولكي يقطع تلك المسافة التاريخية الطويلة، كانت أمامه طرق وعرة لا نخال طبيعتها بأن تكون واحدة، فالعم توم تمتد سلالاته التاريخية لبشر تم دمغهم بالحديد الساخن كما يتم كي جلد البقر أو البهائم في الحظائر لكي لا تضيع وتختلط، وبتلك الأختام النارية القاتلة والمؤلمة كان يتم التعرف على ملكيتها ولمن تعود ملكيتهم، فلكل سيد اقنانه والكليشية التي صنعها بنفسه كختم تعود ملكيته لأجداده. وبمثل ما ورث العبد ورقة عبوديته في تلك الأختام النارية ورث الأعيان والأسياد ورقة ملكيتهم أيضا من خلال تلك الأختام والأوراق المحفوظة في الصناديق الخشبية المغلقة بأقفال تحتاج إلى مطرقة خاصة يكسرها العبيد أنفسهم، ولكنهم لا يقوون على تكسير سلاسل عبوديتهم بتلك السهولة، في أزمنة كان الفقر والبؤس احد أسباب الخنوع في القبول ببراثن العبودية، فمن لم تكن لديه ماشية وارض للزراعة يموت جوعا لو هرب في طرقات وصحراء شاسعة، بل ولا يجرأ أن يخفيه شخص أو جماعة بتلك السهولة التي نعرفها في يومنا. لم تكن المدينة تنامت لكي يهرب لها العبيد، ولم تكن الاقطاعيات سهل الوصول لها لكي تحتضن اقطاعية أخرى عبيدا هربوا من خصومهم وأعدائهم من أسياد اقطاعية أخرى. حدث ذلك في حقبة زمنية مختلفة، إذ سهلت عملية نشوء عصر المدن تلك الظاهرة، ولكن الإمبراطوريات لم تكن ارحم كما نعتقد، كما إن احتضان اقطاعية أخرى لعبيد هاربين لا يعني أنهم سيحصلون على صك الحرية والغفران بمجرد أن تقع أرجلهم داخل تلك المملكة الجديدة لنبيل اخر ظل حاملا سوطه بشكل يشبه السيد الاخر. اللغات ربما اختلفت، الأماكن أيضا اختلفت، الثقافات كلها اختلفت، ولكن ما ظل واحد هو ذلك النهج القاسي من العبودية البغيضة، التي كان على متمرد من طراز سبارتاكوس أن يحطمها ويغزو بها جدران المملكة المحظورة، ويحرك من خلفها جيشا جديدا من العبيد نحو روما المنهارة. هذا الحلم نحو الحرية انفجر في التاريخ كما ينفجر ماء الأرض، وهطل كالمطر الغزير كما تفعل السماء عندما ترتعد فيها الغيوم غاضبة. فللحرية أبواب واسعة تطل فجأة وتفتح طريقا لا يغلق أبدا. لم تهدأ روما بعد ذلك الحريق السبارتاكوسي، مثلما لم تهدأ سفن العبيد القادمة من أفريقيا المرتجفة بإيقاع الألم وهي تمخر فيما وراء المحيط الأطلسي لعالم تم تسميته بالعالم الجديد، فقد كانت أوربا القديمة نموذجا مختلفا لم يعد يتسع لأبنائه، فما كانت الهجرة البيضاء إلا منها ولم تكن الهجرة السوداء إلا من أفريقيا، ولكي ينجح المهاجرون البيض في بناء حضارة الشمس لهم هناك، كان عليهم أن يروضوا الرجل الأسود في تلك المزارع، بعد ان اكتشفوا ان الهندي الأحمر حصان لا يقبل التهجين، فقرروا بدلا من استملاكه تدميره بشريا بفكرة تصفيته جسديا وإبادته من الوجود نهائيا. نجحوا بعض الشيء في تلك الفلسفة الإنسانية المقيتة، ولكنهم قرروا استبدال كائن باخر، آلة بآلة، وفروة ناعمة بفروة مجعدة وجلدة صفراء بجلدة سوداء، ولكنهم اكتشفوا، وهذا سر غباء الرجل الأبيض في حينه، إن الدماء الإنسانية لونها واحد، وأن العرق الأزرق والدم الأزرق وهو ما صنعته القارة الأوربية عندما كان لحظوة نبلاء أوربا قيمة ثقافية وحضارية مغلوطة! يحدث أن الخطأ التاريخي يصنع وجهين يدخلانا في صراع ابدي ومتاهات لم نكن نشتهيها. ولكننا كنا ملزمين بان نحتفظ بالإنسان الجديد والقادم من قارة أخرى وكقيمة استبدالية بسلعة محلية وبسكان أصليين. في عرف التاجر لا يهم شكل ولا نوع السلعة دائما وإنما قيمتها التبادلية في السوق، وقد تكون اقل من قيمتها الفعلية، فالناس من السهل غشهم دائما. استمرت لعبة التراكم المالي ببيع الإنسان كسلعة، ومن خلال السفن المنهمكة في الذهاب والإياب بين قارتين يفصلهما المحيط، كان على الروائية الأمريكية هرييت بيتشر ستاو أن تكتب حكاية حقيقية عن كوخ العم توم، الذي غادره نحو البيت الأبيض والى الأبد، ولكنه بعد نضال مرير وطويل مع كل أشكال التحديات والموت والقهر الإنساني، ومنذ أن حطم العم توم قيوده وهرب جريا كان على الأحفاد انتشال المشعل من يده، لمواصلة طريقهم نحو اولمبياد البيت الأبيض، مثلما حملوا جوائز كبرى في محافل عدة اولمبية في بطولة الجري، وكأنهم يركضون نحو الحرية المفقودة. لكم كان مؤلم طريق الإنسانية من اجل نيل حريتها، والأعظم هو شعور السود بأنهم اخر حكاية مؤلمة في ملف التاريخ البغيض للإنسانية. فهل نواصل جميعا ومعا من اجل حقوق الإنسان؟!، والذي استغرق وقتا أطول بكثير من تلك القيود العظمى في التاريخ، فقد سجنت الحرية دائما في سجون الأقوياء والأثرياء والمتسلطين القادرين على ممارسة فن الغواية.
 
صحيفة الايام
6 سبتمبر 2009