ظلت الولايات المتحدة، رغم تفوقها البائن والواضح اقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً، ظلت تتقاسم (بصورة غير متساوية بالتأكيد) المجالات الحيوية والنفوذ في العالم مع الاتحاد السوفييتي، وذلك على مدى الفترة الممتدة من عام 1945 (نهاية الحرب العالمية الثانية) إلى عام 1991 وهو العام الذي شهد انهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي. لذلك ما إن انهار الاتحاد السوفييتي وتفكك إلى خمس عشرة جمهورية مستقلة، حتى أضحت الولايات المتحدة القوة الوحيدة التي تهيمن على المسرح الدولي دون منازع أو منافس، وذلك في تكرار استثنائي للظاهرة الإمبراطورية الرومانية (خصوصاً في عصرها الذهبي في القرن الثاني الميلادي) والظاهرة الإمبراطورية البريطانية في العصر الحديث (خصوصاً في عصرها الذهبي في منتصف القرن التاسع عشر وحتى العقد الثالث من القرن العشرين). ولكن ذلك - ويا للمفارقة - كان إلى حين وحسب، فالولايات المتحدة الأمريكية لم تهنأ كثيراً بمركزها القيادي العالمي الانفرادي، ولم تتمكن من الاستفادة منه وتوظيفه، ولم تستغله لتوسيع وتعميق الفارق بينها وبين أقرب مطارديها من الدول ‘المتربصة’ لمزاحمتها وإزاحتها عن موقع تربعها على قمة العرش العالمي، ومن ثم تكريس نفسها على مدى أطول كقوة عالمية منفردة بزعامة الكرة الأرضية. فلقد وضُحَ فيما بعد انجلاء غبار نهاية الحرب الباردة أن التعب مثلما هدَّ الاتحاد السوفييتي وأدى إلى ترنحه وسقوطه، فإنه نال أيضاً - وإن بقدر أقل كثيراً - من الولايات المتحدة الأمريكية، إذ خرجت من هذه الحرب الاستنزافية المتبادلة، والطويلة أيضاً، مثقلة بأعباء الأموال الطائلة التي أُنفقت وأُهدرت في هذه الحرب. لقد وفرت نهاية الحرب الباردة وغياب منافسها ‘الاستنزافي’، فرصة للولايات المتحدة لإعادة ترتيب أوضاعها الداخلية الاقتصادية والسياسية (المتصلة بالطبيعة الاحتكارية لآلية الثنائية الحزبية، الجمهورية والديمقراطية، التي قننت ومركزت الحياة السياسية والثقافية الأمريكية وعلبتها ونمَّطتها إلى أبعد الحدود)، بما يشمل ذلك إعادة نظر كلية في النمط الاستهلاكي البذخي للرأسمالية الأمريكية التي اعتمدت بإفراط شديد على الاستهلاك الخاص والعام لتخليق إجمالي الناتج المحلي. إلا أنها لم تفعل ذلك ما أدى إلى مفاقمة أزمة عجوزاتها الوطنية التي انفجرت في شكل أزمة ذكَّرت بأزمة الكساد العظيم لمطلع ثلاثينيات القرن الماضي وجرت معها العالم بأسره إلى دوامتها. أمريكا اللاتينية التي تعتبرها الولايات المتحدة منذ ‘مبدأ جيمس مونرو’ لعام ,1823 حديقة خلفية، والذي يعتبر أي ‘تواجد أجنبي في مجالها الحيوي تهديداً لأمن ومصالح الولايات المتحدة’، لم تعد تتهيب من وتتحسب لرد الفعل الأمريكي في نسج علاقاتها الدولية. فاليوم أصبحت الصين والهند وروسيا شركاء تجاريين ومستثمرين مباشرين رئيسيين في بلدان القارة الأمريكية اللاتينية لا سيما بالنسبة للصين التي استطاعت خلال فترة وجيزة (هي الفترة التي تنعمت خلالها واشنطن بوحدانيتها القيادية الكونية) أن تخلق لها موطئ قدم راسخ في عدد من أبرز دول القارة، منها البرازيل التي أصبحت الصين أكبر الأسواق المستقبلة لصادراتها في الشهور الستة الأولى من العام الجاري، والبيرو التي استثمرت الصين فيها 2,2 مليار دولار لتطوير مناجم النحاس حيث ستتحول الصين إلى أكبر مستورد له من البيرو. فضلاً عن الاستثمارات الصينية المباشرة في الصناعة النفطية في كل من البرازيل وفنزويلا وكوستاريكا والأرجنتين وعلاقات اقتصادية ومالية متنوعة مع بلدان أخرى مثل جامايكا. أما الهند فإنها وإن كانت لازالت تتلمس خطواتها على صعيد علاقات التبادل التجاري مع أمريكا اللاتينية، إلا أنها نشطت بصورة كبيرة جداً خلال السنوات القليلة الماضية في الاستثمار خصوصاً في مجال تكنولوجيا المعلومات والبرمجيات والصناعات الصيدلانية والموارد الطبيعية. حتى القارة الأفريقية أصبحت هدفاً للتوسعات الاقتصادية والاستثمارية الصينية والهندية والروسية. وكالعادة نظر الغرب إلى هذه التوغلات ‘الأجنبية’ في إحدى مناطق نفوذه الحيوية، بمزيج من الريبة والحسد، وذهب بعض أجهزة إعلامه لحد اتهام الصين بخلق ‘مقاطعات نيوكولونيالية’ جديدة! يقال إن الحروب المستقبلية ستكون حروباً مائية، وهذا افتراض لا يخلو من أساس موضوعي. بيد أن الصراعات على مناطق النفوذ بين القوى العالمية الكبرى لم تنتهِ ولن تنتهي مادامت غريزة وشهية التوسع الرأسمالي ومراكمة الثروات باقية على حالتها ‘الحيوية’ المتدفقة. الهند والصين عملاقان اقتصاديان صاعدان بقوة في الحياة الدولية، وهما بحاجة إلى مصادر طاقة ومواد خام هائلة لمقابلة الطلب المحلي المتزايد بسرعة لديهما. ومن الطبيعي أن تسعى الدولتان لتأمين هذه الإمدادات من مناطق العالم المختلفة بما في ذلك القارتان الأفريقية والأمريكية اللاتينية اللتان لم تدخلا قبل ذلك ضمن حساباتهما وضمن عداد أسواقهما التقليدية. ومن الطبيعي أيضاً أن يترتب على هذا التدافع الدولي على أسواق إمدادات الطاقة والمواد الخام حدوث صدامات لا يستبعد معها الشكل ‘الساخن’ لهذه الصدامات. نعم العالم لم يعد إقطاعيات كما كان عليه الحال إبان الحقبة الاستعمارية، ولكن ذلك على الورق وحسب، فلا زال العالم مقسماً عملياً إلى مناطق نفوذ غير متوجة، ولكنها معروفة المعالم، خصوصاً بالنسبة للولايات المتحدة التي ورثت قيادة العرش العالمي من الامبراطورية البريطانية اعتباراً من عام 1945 والتي لازالت تمتلك كل مقومات القوة العظمى الأولى في العالم رغم ما أصابها من أعطاب بالغة. فهل بوسع ‘مؤسسة’ النظام السياسي الأمريكي بآليات عملها الحالية، الدستورية والتشريعية والتنظيمية وهيكلتها الموروثة منذ نهوضها ‘الإمبراطوري’ الأول قبل أزيد من نصف قرن، وبما تمليه على المستوى الإداري، التنفيذي، من استراتيجيات وسياسات تنموية شاملة - هل بوسعها استيعاب صدمة تحديات المرحلة المستجدة المتمثلة تخصيصاً في الصعود الجدي والنوعي لمزاحمين ومنافسين جدد على صدارة المسرح الدولي؟ وهل تمتلك هذه ‘المؤسسة’ المتقادمة مقومات استعادة زمام المبادرة والنهوض ثانيةً لوقف التدهور في الموقف ‘الزعامي’ الأمريكي العالمي والحيلولة دون خسارة صدارته؟ نزعم أن المهمة ثقيلة وصعبة جداً، بل هي أصعب وأعتقد مما كانت عليه شروط الصراع إبان الثنائية القطبية. فلقد ازداد عدد الطامحين في مركز الصدارة العالمية، فبعد أن كان الأمر يقتصر، عملياً، على دولة واحدة هي الاتحاد السوفييتي، فإن العدد ازداد اليوم إلى ثلاث دول على الأقل هي الصين والهند وروسيا. والدولتان الأولتان الصين والهند تشكلان في الواقع تهديداً جدياً للولايات المتحدة نظراً لعمقهما البشري والعلمي.
صحيفة الوطن
5 سبتمبر 2009