المنشور

“ثقافة” المحاصصة الطائفية

هي ليست ثقافة ولكنها قشور، وهي نتاج زوال أو تهشم الأنظمة الوطنية، وتستند هذه الثقافة الممزقة إلى ثنائية السنة / الشيعة، أو المسلمين/ المسيحيين أو اليهود، أو ثنائية المؤمنين / الكفار، أو ثنائية الليبراليين / الإسلام السياسي.
هي أشكالٌ من وعي متراجع في لحظة انهيار وتشظٍ، فما شكلته الحركات الوطنية بجهود الأحزاب التقدمية أساساً، من ثقافة جامعة مُغيبة لثنائياتِ الطائفية تصعيداً نحو مجتمع علماني ديمقراطي، راح الوعي الطائفي يعيدها إلى الوراء.
في عجز الرأسماليات الحكومية العربية عن النهوض بمهام الثورة الصناعية – العلمية – الاجتماعية، وتحجيمها للقطاعات الخاصة ومشروع الرأسمالية الصناعي الحقيقي، وبقاء الأرياف في تخلفها وفائضها السكاني الكبير، وفائض العمل النسائي المغيب والمعطل، تنهضُ البدائلُ المتخلفة لتعيدَ التطورَ للوراء، بسبب جهلها بالتاريخ، لعودتها لزمن ما قبل الحداثة، فتصعّد التوترات الطائفية والثنائيات المختلفة الاستنزافية من جهة والخالقة لفئات انتهازية من جهةٍ أخرى.
النظرات الجزئية الحولاء والذاتية النرجسية وترديد الأسطوانات المشروخة والكسل العقلي وعدم الإنتاج الحقيقي، وإطلاق مجموعات من الصارخين اليوميين بسب الطوائف ومدح الخرافات الدينية والسياسية، وصرف الكثير على هذه المستنقعات، والدعوات للظلامية وكره الحداثة والغرب الديمقراطي والعقلانية الإسلامية وتحبيذ الببغائية وتغييب المسرح والفنون الناقدة للواقع، بكل هذه الأدوات تواصل معسكراتُ الطائفية السيطرة على الكراسي وتوزيع الحصص المادية وتسلم الغنائم وإلهاء الشعوب عن القضايا الحقيقية وجرها للصراعات الجانبية أو الحروب الأهلية.
إذ غدت هذه النزعات (موضوعية) تركز في الجزئي، في قضية قرية مفصولة عن النسيج الشعبي، وعن القضايا العامة للواقع، والتبئير على مشكلات أفراد من الطائفة، أو مناطق، وعزل مدن عن نسيج البلد، والغائر هو أن الطائفة غدت شعباً، وتنقصها دولة، والجزئي هذا بلا تاريخ، ولا جوهر، فالوعي الطائفي بصفته وعياً متخلفاً لا يعرف ما هي سيرورة التاريخ، كيف ظهرت هذه الظواهر والمشكلات، ولا يدري أن وعيه هو ذاته مشكلة، هو جزء من نمو أشكال فكرية معينة في حضن قوى متخلفة، لا تعرف ما هي الأنظمة وعلاقات الإنتاج وتطورها الحتمي، فهي تجر الواقع للتقسيم وتدهور قوى الإنتاج، عبر أشكال فكرها الغائبة عن الوجود الموضوعي. فالأموال التي يُفترض أن تذهب لتطور الإنتاج توجه لتفكيك الإنتاج.
أي إنها تركز في أنماط السرقة الاقتصادية لا في نمط الإنتاج وتطوره، ولهذا تعيش على التسلق وتقديم الخدمات وملء السوق بالكماليات والرساميل التجارية والمصرفية المتضخمة على حساب صنع البضائع، مما يقود لأزمات على كل صعيد.
هذا على مستوى الثرثرة الفكرية يغدو شعارات وأحزاباً فارغة من الدراسة والعلوم ويؤدي إلى انتشار القوليين الذين يرصفون أي كلام طائفي، أو ينشئون السياسي الجزئي المشغول بسطوح الظاهرات.
ولهذا كانوا مسحورين في عقود سابقة بظهور هذه القوى الطائفية وانبهارهم بها، ويتصور الخراب فتحا تاريخيا، فينسحبون على مستوى الفكر من الإنتاج الثقافي العميق، وينسحبون على مستوى العمل من الإنتاج المادي المغير لأنظمة رأسمالية حكومية.
لنلاحظ كيف تحولوا في العراق كنموذج بارز إلى “حرامية” سلطة، واقتصاد، يسرقون البنوك في النهار.
ولنلاحظ كيف تدخل الأنظمة الطائفية في الصراعات المتفاقمة يوماً بعد يوم، ولاتزال أفواههم مفتوحة دهشة ولكن بلا عقول تحلل. ولصراعاتها وتمزقاتها آثار كبيرة قادمة لكنها أخطر من لحظة الولادة السابقة.
حين توجهوا للكيانات السياسية الطائفية كانت غريزتهم تقودههم للمصالح النفطية الكامنة وراء هذا الصعود، فلم تكن الخطابات الطائفية بمعزولة عن صعود النفط، ومن هنا شكلنوا الإسلام وكعادتهم هم غير قادرين على قراءة أعماقه، وإذا ارتدوا للحداثة شكلنوها، في شعارات ليبرالية كسيحة عن تحليل الإقطاع كبنى شاملة. فيقولون نحن الليبرالية والحداثة وأولئك هم الإسلام السياسي، وكلها أسربة من التحليلات.
إن بناء التنظيمات الطائفية خارج البناء الوطني هو رفض لتراكمه في العقلانية والديمقراطية، هو استعادة عالم الدويلات والخارجين على التراكم القومي المفترض.
لم يعودوا لمرجعياتهم المفترضة المشكلة من جهود أجدادهم بل قفزوا عليها، فيغدو النص السياسي ملصقات ذاتية لمصالح فئة عليا في الطائفة، تتبدل وتتأقلم وتتلون حسب هذه المصالح، فليس ثمة شيء موضوعي. وحين يتم إلغاء الشعب وتطوره التاريخي ويغدو فسيفساء طائفية تزول المعايير الموضوعية التي كونها هذا الشعب عن الملكية العامة والديمقراطية وجماعاته وقضاياه وتاريخه.
ما يجعلهم يعيشون عالماً من الاستقرار الزائف هو سعر النفط، وحين يزول هذا السعر فإن البناءات الوهمية كافة في السياسة والحياة الاجتماعية تتكشف.

صحيفة اخبار الخليج
5 سبتمبر 2009