المنشور

العمامة والسياسة

لقرون طويلة منذ ظهور المذهب الشيعي في الاسلام ظلت عمامة رجل الدين الشيعي تحتفظ بمنزلتها المقدسة في اوساط اتباع هذا المذهب وتضفي على معتمرها الوقار الديني والروحاني المميز بما تومئ اليه لما بلغه صاحبها من مكانة علمية وفقهية مميزة ولما يتحلى به من حكمة ومناقبية وخصال في الخلق ومكارم الاخلاق تقتدي في سموها بمناقب الرسول (ص) والأئمة وآل البيت. ولقد ساعد على تفرد هذه المكانة التي تبوأت بها العمامة الدينية من منزلة رفيعة في المجتمعات الشيعية استقلالية الحوزة الدينية عن السلطة منذ نشوئها على امتداد قرون وابتعادها عن معترك الحياة السياسية المباشر.
والى عهد قريب منذ قيام الثورة الايرانية عام 1979 ظلت العمامة الشيعية تكتسب هذه المنزلة المتميزة في المجتمع الشيعي التي تضفي على صاحبها امارات الوقار والحكمة والحلم والعلم وتفرض وجودها على رأس صاحبها احترامه من قبل مختلف الافراد والاوساط الاجتماعية اينما حل واينما نزل في ذهابه وايابه كائنا من يكون معتمرها، اي حتى ولو كان مجهول الاسم والانتماء العائلي لدى الناس.
هكذا على سبيل المثال كانت منزلة ومكانة رجال الدين الشيعة في البحرين الذين كانت اعدادهم قبل الثورة الايرانية اقل بكثير من ربع اعدادهم اليوم وقبل ان ينغمس جلهم في الصراعات السياسية والحزبية ويتم اقحام العمامة او توظيفها في الشأن السياسي اليومي فيصبح الكثير من معتمريها نشطاء سياسيين وقادة حزبيين واعضاء برلمانيين ورجال سلطة، كما في ايران وعراق ما بعد الغزو الامريكي، فيعجز أصحابها السياسيون كأطراف وقوى في حلبة معترك العمل السياسي اليومي لهم خصومهم مع نظرائهم من اصحاب العمائم في الطائفة الواحدة ان يتبوأوا بالمكانة المتفردة التي تجمع عليها الامة كما كان حال اسلافهم ونظرائهم قبل قيام اول دولة “شيعية” في التاريخ الاسلامي الحديث.
لقد كتبت عما فعلته السياسة بالعمامة الشيعية غير مرة في اكثر من مناسبة، منها كما اتذكر غداة مقتل السيد عبدالمجيد الخوئي في الصحن الحيدري بالنجف عشية انتهاء الغزو الامريكي للعراق، وكان ان نقلت بعض اجمل ما قرأته عنها على لسان البحاثة التراثي العراقي رشيد خيون “ارى منزلة العمامة كمنزلة المطر، تحيي القلوب عند جفافها وموتها، ودليلي على هذا ان العمائم حفيدات عمامة اعتمرها صاحب الضريح المنير في وادي النجف، وهي هدية من الرسول له وكان اسمها السحاب، جاء في لسان العرب وتاج العروس حول علة التسمية، سميت به تشبيها بسحاب المطر، وهل هناك نقاوة تفوق نقاوة ماء السحاب؟ المفروض ان يكون اصحاب العمائم متسامين بعواطف نقية كماء السحاب يندفعون الى السلام اندفاع الدلافين للغرقى، من دون ان يحسبوا حسابا للكراهية والبغضاء”.
وفي موضع آخر يعبر خيون عما لحق بمنزلة العمامة الشيعية المقدسة من اذى بفعل السياسة والتسييس في عصرنا، عصر ما بعد قيام الدولة الشيعية “كم يبدو معتمرها هزيلا وهو يحشو بدنه تحت كرسي السلطان، يطوع له العامة بالكلمة المقدسة. لقد كان من اعراف وطباع مراجع النجف ان يأتيهم السلطان ولا يأتونه، فالضيف مهما بلغت منزلته أقل عزة في لحظة الاستضافة”.
“والعمامة كما نعلم تاج لمن يقدر منزلتها ويصون مسئوليتها وكم تبدو نافرة عن رأسه ان اخل معتمرها بشرط من شروطها”.
أما الباحث العراقي النجفي محمد جواد الطريحي فيصف العمامة بأنها “تجسد المثال الرائع للإنسان الكامل في فضيلته وتواضعه الجم كلما تقدمت شوطا في مضمار العلم النافع، لا ان تكون مسلكا لعبيد الدنيا ممن كان الدين لعقا على السنتهم يحوطونه ما درت معايشهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون…”.
(مجلة الموسم، هولندا، العددان 23،24، عام 1995).
ويضرب الطريحي أمثلة عديدة من التاريخ الحديث لرموز تاريخية ودينية من اصحاب العمائم في العراق وايران ممن كانت عمائمهم تتبوأ منزلة رفيعة لدى مختلف الاوساط الدينية والمذهبية والاجتماعية في مجتمعاتهم بفضل ما لعبوه من ادوار دينية وتاريخية ولما تميزوا به من مناقبية وصفات مميزة في شخصياتهم رفعت من منزلة ومكانة العمامة التي يعتمرونها واضحت رمزا بامتياز لمكانة صاحبها ولجدارته باعتمارها.
لكن منزلة العمامة اليوم لم تعد تضاهي في حصانتها ومنزلتها في عصرنا ما كانت عليه في عصورها الغابرة الزاهية قبل ان تعرف التسييس ويصل العديد من اصحابها إلى كراسي الحكم والسلطة، إذ تسجل وقائع التاريخ المعاصر حوادث لا تحصى بما لحق بالعديد من اصحابها من اذى وانتهاكات واساءات فظة تحقيرية وجهت اليها مباشرة، ولعل من المفارقات الصارخة ان يجرى ذلك على ايدي اصحاب العمائم وفي ظل دولتهم، فكم كان امرا محزنا ومؤلما ان يباغت احد افراد السلطة رئيس البرلمان السابق الشيخ مهدي كروبي ، وهو نازل من سيارته، لينزع منه عمامته ويظهره حاسر الرأس أمام الملأ. وكم هو امر مؤلم ومحزن ان يجر الشيخ محمد علي ابطحي بلباس السجن الى المحكمة حاسر الرأس كمجرم من دون عمامته.
هكذا فعلت السياسة.. وهكذا فعل التسييس.. فإلى متى يا ترى ستظل على هذا الحال؟ ومتى يعود اليها عصرها الزاهر؟

صحيفة اخبار الخليج
2 سبتمبر 2009