المنشور

متى تكون روسيا وأمريكا والقمر جيرانا؟

ضمن الاخبار المنشورة عن الاحتفالات العالمية بالذكرى الاربعين لوصول أول انسان الى سطح القمر ثمة خبر قصير استوقفني لما يشي عنه من مغزى اراه عميقاً فيما يتعلق بما يصرف على البحوث والاعمال والاكتشافات العلمية.
الخبر يقول ان الممثل الألماني البارز اوتفريد فيشر تهكم من قيمة او منفعة وصول الانسان الى القمر باعتباره لم يفد البشرية بأي شيء حتى الآن، سوى محاولة اثبات ان الانسان صار في وضع من التفوق العلمي يمكنه من تحقيق أي شيء، اذا ما اراد وتحقيق الشهرة للبلد الذي ارسل المركبة الفضائية التي هبطت بروادها على القمر الذين لم يجدوا شيئاً يغزونه هناك سوى صخور القمر.
ولو ان انسانا من العرب او الشرق قد ادلى بمثل هذا الرأي الذي يبدو طريفاً لقيل إنه متخلف او ضيق الافق لكن صاحب هذا الرأي هو واحد من فناني الغرب.
ومع ان وصول الانسان الى القمر هو بلا شك انجاز علمي مثير وكبير، بل يستحق ما أنفق عليه من مال، بغض النظر عما قد يستغرقه الوقت لجني ما يمكن تحقيقه من فوائد للبشرية، الا ان رأي الفنان الالماني المذكور جدير بالتأمل والمناقشة وينطوي على حساسية انسانية ووعي اجتماعي كبير تجاه مصالح الناس ولاسيما ان هذا الفنان ذاته اصاب كبد الحقيقة عندما قال ان الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي هي التي كانت المحفز الأول لمحاولة الوصول الى القمر. ووصف الفنان فيشر هبوط الانسان على القمر بأنه أكبر استعراضات السيرك في كل العصور.
وبصرف النظر عن مدى الاتفاق او الاختلاف مع وجهة نظر الفنان الالماني تلك المثيرة إلا أنه مما لا شك فيه ان معظم الانجازات العلمية الفضائية التي تحققت في القرن العشرين بما فيها التي تبدو لأغراض مدنية كان الباعث او المحفز وراءها اهداف عسكرية، سواء التي تحققت من قبل الاتحاد السوفييتي ام من قبل الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة ويكفي ان نعرف فيما يتعلق بالاتحاد السوفييتي تحديداً انه تخلف عن الغرب في كل شيء فيما يتعلق بالتطور الصناعي والتقني إلا الصناعات العسكرية والفضائية.
وعلى الرغم من مضي نحو عقدين من انتهاء الحرب الباردة التي كبدت البشرية ولاسيما الشعبين الامريكي والسوفييتي اموالاً طائلة صرفتها حكومتاهما على البحوث الفضائية ذات الاغراض العسكرية المعلنة أو الخفية وعلى مختلف اشكال التسلح فإن حجم الميزانيات العسكرية في العالم مازال مهولاً وفي ازدياد مخيف طبقاً لمعلومات معهد ستوكهولم الدولي لدراسة قضايا السلام المعلنة في اوائل يوليو الماضي حيث قدرها المعهد بأنها وصلت إلى تريليون واربعمائة وستين مليار دولار كما ان هذا المعدل يزداد سنويا بنسبة 6%، والأهم من ذلك فإن نصف النفقات العسكرية العالمية هي من حصة الولايات المتحدة. وخلصت بيانات معهد ستوكهولم إلى أن الزيادات الجنونية في النفقات العسكرية العالمية خلال السنوات العشر الماضية تخطت أعلى المعدلات المعروفة في سني الحرب الباردة.
وعلى الرغم مما هو معروف من صراع مرير مدمر ماليا واقتصاديا حتى عسكريا في حروب حلفائهما جرى خلال الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة فإن ثمة اشكالا محدودة من التعاون العلمي المشترك لصالح الحضارة الانسانية وتقدمها لم يقيض له الاستمرار للأسف، بما في ذلك التعاون في مجال الفضاء ومن ذلك على سبيل المثال ما جرى عام 1975م حينما انطلقت المركبة الفضائية الروسية “سويوز” لتلتحم مع المركبة الامريكية “ابولو” وكان الغرض المشترك لهذه العملية استشراف سبل عمليات الانقاذ الدولية في الفضاء وتنظيم الرحلات الفضائية المأهولة المشتركة لكن ذلك لم يحدث وعلى نطاق مازال ضيقاً إلا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة حينما انطلق رواد الفضاء الروس والامريكيون الى المحطتين الفضائيتين الدوليتين “سويوز” و”شاتل”. هذا بالاضافة الى ما تحقق خلال شهر أبريل الماضي حينما ارسلت وكالة “ناسا” الامريكية الفضائية مسبارين الى القمر على متن صاروخ “أطلس خمسة” احدهما يحمل التلسكوب الروسي “ليند” لقياس الاشعاعات المنبعثة من سطح القمر التي ستساعد على وضع خرائط تتسم بالدقة المتناهية لسطح القمر واستكشاف مواقع محتملة للهبوط مجدداً على سطح القمر والبحث عن احتمالات وجود جليد في المنطقة المظلمة من سطح القمر.
ولنتخيل لو ان الدولتين الجبارتين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق تعاونهما العلمي المشترك اكبر مما كان عليه وان ما انفقاه من مليارات على سباق والتسلح المجنون قد انفق على هذا التعاون العلمي فكم كان شعباهما سيستفيدان ومعهما البشرية جمعاء. وهل كان الاتحاد السوفييتي سيسقط صريعاً ضحية لهذا السباق المجنون في التسلح الذي جرته إليه أمريكا؟ وهل كانت الولايات المتحدة ستتخبط هي الاخرى بين حين وآخر في سلسلة هذه الازمات المالية التي تطاول آثارها الكارثية كل شعوب المعمورة؟
وباختصار شديد لنتساءل كم سيربح شعباهما وشعوب العالم لو امتثلا معاً في تعاونهما العلمي وليس الغزلي لرائعة فيروز “احنا والقمر جيران” كنموذج لسائر اشكال تعاونهما الفضائي المفيد؟

صحيفة اخبار الخليج
23 اغسطس 2009