المنشور

كلمتا البرقِ الخــُلبِ

في التراث تجسد صورة (البرق الخلب) حالات الإنسان المزهو بنفسه مثل السحابة الكبيرة التي تطلقُ البروقَ ثم لا تـُسقط مطراً.
وهي حالة كثير من الناس يتصورون ان بإمكانهم أن يكونوا نجوماً في سماء المعرفة والفكر، فيعتمدوا على التظاهر الخارجي، مثل الممثل الفاشل الذي هو غير قادر على صنع المشاعر الداخلية في أغوار نفسه، فيتظاهر بحركات خارجية تعكس فقره الروحي.
والسبب قوة الطموح وقلة الدرس، فهو ليس لديه وقت للقراءات العميقة، ومكابدة البحث، وعناء الصقل الداخلي، ونحت الأفكار في الدماغ، إما لعادات اجتماعية سيئة وإما لنقص في القدرات الجسمية، ومع هذا فهو يرى الناس كالأقزام، ويرى المنتجين الكبار محدودين صغاراً، وهي خصال سيئة تزيده تشوها لكنه لا يراها في نفسه بل في الآخرين.
وأدت ظروف التنافس والفردية الطاغية وسيادة عالم المظاهر وانتشار الدكتاتوريات المقزمة للبشر، إلى صعود هذه الظاهرة واستشراء شراء الأقزام وتصعيدهم على المسارح الاستعراضية السياسية والاجتماعية المختلفة.
حين كان العصابي الاجتماعي مع البشر العاديين، يصارع ما يصارعون، ويتألم مما يتألمون، كان لديه بعض المواهب، وكانت مشاعره تتألق للدفاع عن الوطن أو الناس، كان يحفظ بعض الشعارات، ويقرأ بعض الإنتاج، ولم يكن متواضعاً وهو مع هذا الحشد المضحي، بل يرى نفسه مغايراً، ولا يرضى بأي نقد، وهو عصبي المزاج، يعكس نفساً متورمة، لها حدود حمراء تتفجر بالصراخ والنداءات الحادة حين تلامس تلك الحدود أي ريشة قدح أو نقد.
وإذ كثيرون من المتورمين يتساقطون عاجزين عن دفع ضريبة العمل السياسي الذي يتطلب النقد والبحث وكون المشتغل به فردا مثل سائر الأفراد، فإن المتورم الأكثر تركيباً، والأكبر طموحاً، الذي يمتلك بعض المهارات، يواصل الصعود في عالم الأنوار، عالم البروق.
في حالة الكتابة يتعلق بالشعارات والحالات العامة المجردة التي ليست فيها قدرات تحليلية عميقة، يستند إلى جزئيات فيها بعض الصحة والبقع الفاقعة والصواريخ المبهرة، ويمضي بها وقتاً ولكن غير قادر على الاستمرار فيها وجعلها تتغلغل في المجتمع، ومتابعة تصوير نماذجه من العامة والمثقفين الذين كان يحفل بهم، ويتابع نماذجهم، فيروح في عالم كتابي غنائي غامض، ينسحبُ من خلاله من عالم الكادحين الذين كان يتغنى بنضالهم، ويسجل عذاباتهم، ولا يحفل بالتناقض بين ما كان بالأمس وما صار اليوم.
لا تهمهُ مساحة التناقض، وهوة الاختلاف، وعظم القصور الداخلي، وضرورة مراجعة النفس، ونقد الذات على الهوان، وكون الأشياء المادية لا تساوي شيئاً أمام عظمة النفس، وأن المهم والعظيم هو بقاء الذات مشعة ومستمرة في صنع المطر لا في تشكيل الاستعراضات المبهرجة والبروق الخلبية.
لا يستطيع أن يستمر في كتابة الحقيقة، فكتابة الحقيقة لها أثمان: تعبٌ في القراءة، وبساطة مع الناس، وتواضع أمام الرموز الإنسانية الكبيرة، وشفر الأسلحة في تعرية نماذج الفساد، وظاهراته الاستغلالية المتصاعدة، وتوسيع البصيرة في رؤية الأحداث الغامضة، لكنه لا يستطيع ذلك.
فقد يلجأ هنا إلى صوفية تجعلهُ متوارياً، مغمغماً بلفظيات فاقعة مبهرجة، مجعجعاً بثورياته في المطلق والمجرد والغامض، أو إلى إنشائية اجتماعية أو سياسية مباشرة يسودها الاستعلاء وتجريح الآخرين وتقزيمهم وهي تصدر عن نظرات ضحلة لا تتغلغل في الظاهرات الاجتماعية والسياسية المعقدة، لكن عبر الصواريخ اللغوية والادعاءات الأدبية، يستر جزءا من عري ظاهر.
ولابد له من مدح الواقع القائم الذي يستفيد منه، متحولاً هنا إلى عالم موضوعي، يدرك المراهقة اليسارية وخطورتها ويخفف من وطأتها على الكفاح الشعبي، ويغدو هو الوطني البارز الذي يعرف مسار الحق، ويوجه الجماعات الطائشة كافة إلى طريق الصواب.
ورغم أن نظرته حولاء، ويقرب النار من قرصه في الانتقادات الصغيرة كافة، والمدائح الكبيرة، ويستدير في أي لحظة و”يتشقلب”، ويكشف عن الإنجازات الخطيرة، فإنه يرى أنه أعظم من فكر ونظر.
وتتعقد الحالة النفسية إذا كانت مثل هذه الإنشائيات تتشكل من أجل لقمة العيش، فهي تصير تواضعاً من العملاق، وإهانة لقدراته الكبيرة من أن يخدم البسطاء و(الأغبياء)، فإذا كانت زحفاً في عالم الفساد وضروب التزلف والنفاق السياسي، فلابد من تصويرها على أنها قمة البحث والعروض النقدية والكشف لصالح الأمة والشعب.
لا تتشكل هنا حالة خصب مع ابتعاد النموذج عن الأرض وعن الناس، حيث اصبحت فقاعة تطير في الهواء، تطلق بروقها الحارقة على المشاهدين، وتعيد تشكيل الإنسان والحضارة.

صحيفة اخبار الخليج
23 اغسطس 2009