المنشور

فتح تنهض من ركودها بالتوافقية

كان أمرًا عسيرًا على حركة فتح أن تجتاز وضعها التنظيمي في مؤتمر تاريخي تأخر عقده منذ أكثر من عشرين عاما، بل وفي وضع قضية ما تزال تحت الاحتلال ومقسمة إلى قوتين تحتل كل قوة احد القطاعين هما غزة والضفة الغربية . بل والأكثر صعوبة كيف تجتاز الحركة حالة تنظيمية لم تتعلم في تاريخها العمق الديمقراطي لأسس الاختيار في عملية التصويت والترشيح. ولكن حركة فتح نجحت في اجتياز محنة مستأصلة عطلت شرايين حيويتها، بل وأدخلت الحركة في تشرذم الفئوية والحزبية بنزعتها الضيقة، التي هيمنت عليها البيروقراطية الحزبية لسنوات طويلة في الشتات وفوق أرضها بعد نضال مرير دفعت ثمنه باهظا كفصيل هام للشعب الفلسطيني . من جادلوا حول فصل الرعيلين أو الجيلين ، فإنهم كانوا يجادلون في مسألة سفسطائية ، إذ لا يمكن أن تتواصل الأجيال داخل حركة سياسية وتنظيمية بدون ذلك التداخل العملي، فمن يغذون ويمدون التنظيم وجيله الأقدم هم الأجيال الأكثر حداثة في الأعمار، وهم رافده التنظيمي المستمر، ولهذا لا يمكن قطع الفروع عن جذور شجرة تنظيمية تعتمد في نضالها على الأجيال الشابة، فيما تستمد الأجيال الشابة خبرتها ودروسها من الأجيال التي تمرست طويلا في العمل التنظيمي والسياسي، وفي ما بين هذين الجيلين تبقى حلقة مهمة من المخضرمين الذين عهدوا، الجيلين وعاشوا مراحل عدة من تجربتهم المهمة في الساحة الفلسطينية . لا يهم أن نفتش في هذا المؤتمر عن النواقص والسلبيات، طالما انه حقق خطوة كبرى على طريق الديمقراطية الحزبية، ودشن عصرا من التغيير والتقدم، بنقل حركة فتح في الألفية الثالثة نحو رؤية جديدة لقضية الشعب الفلسطيني الذي يمازج بين البندقية والسياسة، وغصن الزيتون والحوار جنبا إلى جنب مع البندقية والمقاومة الشرعية لحركة تحرر فلسطينية، من حقها أن تختار طريقها عندما يفرض عليها العدو خيارا وحيدا وعنيفا وعدوانيا متنكرا ورافضا لحقوق الشعب الفلسطيني . بين خيارات القوة والحوار، خيارات الموت والحياة، فان الشعب الفلسطيني ينحاز دائما لخيارات الحياة من اجل حياة أفضل ومستقبل أطفاله ودولته المنتظرة. ما أنجزته حركة فتح بعد انتظار وشلل طويلين هو قفزة في فضاء واسع ومعقد، تعلم منه المراقبون، إن هذا الشعب قادر على تخطي ظروفه مهما تعطلت مفاصله التنظيمية والسياسية. وكان أمام المؤتمر مسؤولية كبرى تنظيمية وسياسية، بأهمية ضخ التنظيم بالدماء الجديدة في لجنته المركزية ومجلسه الثوري، مما يعني خروج المؤتمر بحلول توافقية ومرحلية بدلا من تعطيل مسيرة الحركة ودفعها لمزيد من الصراعات والانقسامات، إذ شاب العديد من أعضاء الحركة – وطوال هذه السنوات – روح اليأس والتساؤل عن دور الحركة ومسيرتها النضالية في ظل ظروف دولية وإقليمية مستعصية . دون شك كان متوقعا اتفاق المتفقين والمنقسمين والتوافقيين، على اختيار الرئيس عباس زعيما بلا منافس فكان فوق المنافسة الفردية كونه احد الرموز التاريخية للحركة وكونه الماكينة العملية للتفاوض مع إسرائيل وزعاماتها، فيما ظل مروان البرغوثي شخصية رمزية أخرى اتفق غالبية المؤتمرين على حضوره وأهميته التاريخية كأمين سر الحركة في الضفة الغربية . دون شك مؤتمر فتح مؤتمر تاريخي بكل المقاييس الحزبية والسياسية للتاريخ الفلسطيني المعاصر، فقد ناقش المؤتمرون خلال أيام عديدة مئات القضايا المعقدة والشائكة، بل وفي ظروف أغلقت حركة حماس في وجه مندوبيها الحضور والمشاركة في المؤتمر بصورة عملية، ولكنها عجزت عن خنق أصواتهم واجتيازها جدران العزل والحصار في انتقاء أسماء عدة في قوائم احتاجت التدقيق والمعاينة . ومن عادة المؤتمرات الحزبية وغير الحزبية، أنها حال الاختلاف والوصول إلى طرق مسدودة يتم التسوية حول نقاط الخلاف بالتوجه إلى المساومة عن طريق توسيع اللجان وزيادة الأرقام بحجة أنها خطوة فرضتها ” المتغيرات ” وعادة تلك المتغيرات ليست إلا أحجار عثرة أعاقت المختلفين في تخطي أزمتهم . فقد توقع بعض المراقبين، محاكمة البعض بقوة وفصل البعض من المؤتمر بل وخسارتها أمام مندوبين يقاربون 2300 عضو، غير إن الحقيقة برهنت إن المختلفين كان لديهم رصيد من الشعبية، في كلا الجيلين ” العجائز / الختيارية أو الشباب ” إذ يبدو إن تركيبة غريبة تحكم البنية التنظيمية والسياسية لحركة فتح، بحيث صممت الحركة أن تجعل من جراحاتها الداخلية ألما داخليا، فتغلق جميع الأبواب والمنافذ على من يتصيدون في المياه العكرة . من يعبدون الإيقونات كانوا هناك ومن يودون التمرد بلا معنى كانوا هناك ومن كانوا بسلاح العقل والمنطق كانوا هناك أيضا فسارت سفينة فتح دون اهتزازات تراجيدية، كان الأعداء ينتظرونها بفارق الصبر !
 
صحيفة الايام
23 اغسطس 2009