المنشور

الخصومة المعقودة بين المجتمعات العربية والحرية

خلصت إحدى المنظمات الأمريكية‮ ‬غير الحكومية في‮ ‬دراسة نشرت لها قبل أيام إلى أن العالم العربي‮ ‬ليس حراً‮ ‬ولا ديمقراطياً،‮ ‬هل في‮ ‬الأمر جديد؟ كلا،‮ ‬فلقد سبق عديد منظمات المجتمع المدني،‮ ‬هنا في‮ ‬العالم العربي‮ ‬وليس خارجه،‮ ‬المنظمات الدولية الرسمية مثل منظمة الأمم المتحدة ومنظماتها المتفرعة،‮ ‬والمنظمات‮ ‬غير الحكومية،‮ ‬العالمية،‮ ‬في‮ ‬إثارة هذه المشكلة وتسليط الأضواء عليها وتناولها بالنقد والتحليل،‮ ‬ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر،‮ ‬التقرير السنوي‮ ‬الذي‮ ‬تُصدره ثلة من كبار الخبراء والمختصين العرب من مختلف حقول الاختصاص والذي‮ ‬ركزت نسخته لعام‮ ‬2005‮ ‬على معاناة العالم العربي‮ ‬من نقص الحريات بما‮ ‬يشمل ذلك‮ ‬‭-‬‮ ‬بحسب التقرير‮ ‬‭-‬‮ ‬أساليب الحكم المطلق المغلّف والانتخابات الصورية،‮ ‬والقيود على الإعلام وتهميش المرأة‮. ‬حيث أشار التقرير إلى سبعة ضمانات‮ ‬غير قابلة للجدل لابد من توفرها كشرط انتقالي‮ ‬نحو الديمقراطية بما في‮ ‬ذلك‮: ‬حق التصويت،‮ ‬وحق الانضمام إلى المنظمات وحق النشطاء السياسيين في‮ ‬التعبئة الجماهيرية‮. ‬وهي‮ ‬حقوق بديهية لايزال العالم العربي‮ ‬بعيداً‮ ‬عن التسليم بها‮.‬ ولذلك ولأن الموضوع لا‮ ‬يشكل أولوية ولا هاجساً‮ ‬للمجتمعات العربية،‮ ‬حكومات وشعوب،‮ ‬في‮ ‬الوقت الراهن على الأهل،‮ ‬فإن إثارته من حين لآخر،‮ ‬حتى ولو جاء من صوب المنظمات الدولية التي‮ ‬تتحسس وتتوجس منها الحكومات العربية،‮ ‬فإن أي‮ ‬أحد في‮ ‬دوائر الحكم كما في‮ ‬الشارع العام ونخبه،‮ ‬لم‮ ‬يُعر اهتماماً‮ ‬للدراسة المذكورة‮.‬ ربما لأن‮ ‬غياب الحريات قد‮ ‬غدا إحدى السمات المشتركة بين مختلف البلدان العربية التي‮ ‬طبعت نفسها بطابع مجتمعاتها وتأقلمت وتأكسدت مع أنساق القيم والعادات والممارسات المجتمعية وصارت جزءاً‮ ‬من أنماط الحياة العربية التي‮ ‬لم تتحقق فيها بعد شروط‮ ‬‭-‬‮ ‬كي‮ ‬لا نقول مقومات الحرية‮ ‬‭-‬‮ ‬أو بديهيات تحققها المتمثلة في‮ ‬أن الإنسان لكي‮ ‬يكون سعيداً‮ ‬عليه أن‮ ‬يكون حـراً،‮ ‬ولكي‮ ‬يصبح حراً‮ ‬عليـه أن‮ ‬يمتلك حاجاته الأساسية‮ ‬‭(‬Basic needs‭)‬،‮ ‬أي‮ ‬المأكل والمشرب والمسكن‮.‬ ولما كانت الدراسات السوسيولوجية التي‮ ‬أجريت في‮ ‬السنوات العشر الأخيرة في‮ ‬العالم العربي‮ ‬تشير إلى أن أحوال الإنسان العربي‮ ‬تدفعه رويداً‮ ‬رويداً‮ ‬باتجاه الاكتئاب،‮ ‬وحيث إن الإقليم العربي‮ ‬ينتمي‮ ‬إلى مصاف الأقاليم العالمية ذات النسب العالية من البطالة والتهميش والفقر المدقع،‮ ‬فإن هذا الإنسان المطحون في‮ ‬دوامة البحث عن لقمة العيش ليس في‮ ‬وارد البحث عن السعادة‮ (!) ‬وعن شرط تحققها ترتيباً‮ (‬الحرية‮)‬،‮ ‬وهو الذي‮ ‬لا‮ ‬يزال في‮ ‬مرحلة البحث الأولى عن تحقيق كينونته وهي‮ ‬هنا تأمين حاجاته الأساسية‮. ‬ثم إن الحرية مرتبطة بالوعي‮ ‬بضرورتها،‮ ‬فهي‮ ‬بهذا المعنى بنت الوعي‮ ‬كما نقيضتها العبودية بنت الجهل‮.‬ ولذلك ربما‮ ‬غدا التطلع،‮ ‬وفي‮ ‬طور أعلى‮ .. ‬المطالبة بالحرية،‮ ‬ضرباً‮ ‬من الترف الفكري‮ ‬الواقع خارج السياق العام للحياة العربية مادام الوعي‮ ‬بها وبضرورة تحققها لم‮ ‬يحظيان بعد بإرادة حيازتهما المعرفية لدى القطاع الأوسع من الجمهور‮.‬ ليس هذا وحسب،‮ ‬بل إن قفزة ارتدادية هائلة قد اندفعت وصدمت بشدة التشكيلات الجنينية النيرة التي‮ ‬بالكاد بدأت تتلمس طرقها في‮ ‬دروب الإرث الثقافي‮ ‬العربي‮ ‬الوعرة،‮ ‬والتي‮ ‬من نتائجها المثيرة للسخرية أن هذا الجمهور الذي‮ ‬يفترض أن‮ ‬يكون شعلة احتشاد الحرية واصطخاب وهجها وتدافعها الضاغط بقوة على البنى المانعة والحاجزة لأفق وفضاءات تجسيداتها وتعبيراتها إذا به‮ ‬يتحول إلى أداة طيعة في‮ ‬أيدي‮ ‬القوى المناهضة لها وإلى سيف مشرع في‮ ‬وجهها ومسلط على رقاب المنادين بإشاعتها من رواد النهضة والتنوير في‮ ‬مجتمعاتنا العربية‮.‬ فمعاناة المفكرين والمثقفين العرب لا تقتصر اليوم على تهميشهم وتضييق الخناق عليهم من قبل من بيدهم السلطة والقرار،‮ ‬وإنما تمتد ويتسع نطاقها ليشمل‮ ‘‬وعاظ السلاطين‮’ ‬ممن ركبوا الموجة الدينية وحولوها إلى مصدر استرزاق وتكسب على حساب قوى المجتمع الحية،‮ ‬إلى جانب جموع الدهماء التي‮ ‬لعبوا بعقولها واستولوا عليها وعلى ضمائرها فحولوها إلى طابور‮ ‬يتم تجييشه كلما استدعت‮ ‘‬الحاجة‮’ ‬الدفاع عن مواقع مصالح الاكليروس‮.‬ اليوم وحتى بعد مرور سبع سنوات على صدور النسخة الأولى من تقرير التنمية البشرية في‮ ‬العالم العربي‮ ‬في‮ ‬عام‮ ‬2002‮ ‬فإن أوجه العجز‮ ‬‭(‬Deficit‭)‬‮ ‬الثلاثة التي‮ ‬شخصها التقرير آنذاك وهي‮ ‬المعرفة‮ ‬‭(‬Knowledge‭)‬‮ ‬والحرية وتمكين المرأة،‮ ‬مازالت قائمة إلى اليوم،‮ ‬بل إن تقرير هذا العام الذي‮ ‬صدر قبل بضعة أسابيع‮ ‬يشير إلى تعمق مشكل الحرية،‮ ‬والذي‮ ‬يعزوه التقرير إلى هشاشة الهياكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية،‮ ‬ما‮ ‬يلقي‮ ‬بظلاله على ما أسماه وأوجزه التقرير في‮ ‬انعدام أمن المواطن العربي‮.‬ على أننا نحسب أن المسألة أعقد وأطول مدى من السنوات السبع سالفة الذكر‮. ‬ولولا اضطرار العالم العربي‮ ‬للالتحاق بـ‮ ‘‬العالمية‮’ ‬واضطراره لمجارات تقدمها لكان حال الحرية أسوأ بكثير مما هو عليه اليوم‮.‬
 
صحيفة الوطن
22 اغسطس 2009