المنشور

كل هذا الجمال لي؟!

يتفاجأ الإنسان أحياناً بأن مخزونه من الذاكرة يحتفظ بقدرٍ هائل من التفاصيل والحكايات والوقائع والمشاعر الكامنة أو حتى تلك التي انطفأت تماماً. ويحدث أن نلتقي بصديق قديم جمعتنا معه عشرة طويلة، قبل أن تأخذنا الحياة إلى مصائر مختلفة، فيذهلنا أنه مازال يتذكر أشياء وأمورا نسيناها كلية، ولكننا نلاحظ أنه هو الآخر نسي أشياء أخرى مازالت قابعة في منطقة مضيئة من ذاكرتنا. وهذا يحث على التأمل في حقيقة أن ذاكرة كل إنسان تحتفظ بنوعٍ من الذكريات تتسق وشخصيته أو ميوله، كأن آلية عمل الذاكرة هنا آلية انتقائية. رغم ذلك ليس واضحاً تماماً كيف تستعاد الذكرى. يقال أحياناً أن هناك محفزات خارجية تصادف المرء فتوقظ لديه ما يتصل بها من ذكرى نظن انها غاصت بين طبقات الذاكرة ولم تعد تلح على الخاطر. ويحضر في الذهن ذلك المشهد الذي رأيته في أحد الأفلام الأجنبية عن رجلٍ ذهب لتناول العشاء مع وزوجته وأطفاله في أحد المطاعم فأبصر في زاويةٍ أخرى من المطعم فتاة حبه الأول قابعة هي الأخرى مع زوجها وطفليها على طاولة أخرى، ويقال إن الحب الأول رغم الشحنة الرومانسية الكبيرة فيه فإنه ليس من العادة أن يكلل بالنجاح. ومن المحفزات الخارجية للذكرى أن تمر على مكان ارتبطت به يوماً أو تسمع أغنية أو تشم رائحة… الخ. ولكن بواعث الإيقاظ ليست خارجية فقط، فالذاكرة ماكرة وقد تحرص عليها عوامل غامضة، وليس صحيحاً دائماً أن الزمن كفيل بجلب النسيان، فالزمن مخاتل هو الآخر ومليء بالمفاجآت، ويبدو صحيحاً أن الإنسان كثيراً ما يلجأ للذكرى تعويضاً عما هو مفتقد في الواقع. صحيح أن التعويض هنا شديد الرمزية، ولكنه شديد الفعالية كذلك ولو في بعض اللحظات. يفرق الراحل غالب هلسا في إحدى مقالاته بين نوعين من الأمكنة: المكان الأليف والمكان العادي. ربما جازت الاستفادة من هذا التقسيم للتفريق بين نوعين من الذكريات: الذكرى الأليفة التي تجيء لا تؤذي كما يقول مارسيل خليفة في أحد أغانيه، والذكرى غير المستحبة التي لا تبعث على السعادة. وعلى سيرة السعادة أذكر مشهداً من فيلم أمريكي قديم عن رجلٍ تكالبت عليه محن الدنيا، ووجد نفسه وحيداً بجوار بحيرة نائية معزولة. حين أفاق ذات صباح باكرٍ على مشهد آية في الفتنة والجمال للطبيعة من حوله، تساءل بينه وبين نفسه: كل هذا الجمال لي؟! قبل أن يستدرك قائلاً: إن الأشياء الجميلة تأتي أحياناً في غير وقتها. كأن للسعادة لحظتها الخاصة بها، تلك اللحظة الشديدة الخصوصية التي يتملكنا فيها الشعور بالفرح والطمأنينة وتناغم العناصر المختلفة للرضا النفسي والروحي. ساعتها ليس مهماً كيف نعرف اللحظة الأليفة، لحظة السعادة، يكفي أننا نعيشها بكل ذرة من ذرات روحنا، تاركين العنان للتوق لوعود جميلة آتية يذهب إلى أقصى مدى يبلغه.
 
صحيفة الايام
22 اغسطس 2009