المنشور

اللادولرة واللادولرة العكسية

الصحافي المكسيكي كارلوس فيرريرا اعتبر فرش السجاد الأحمر لاستقبال الرئيسين الأميركي أوباما ورئيس الوزراء الكندي ستيفان هاربر في لقاء قمة ‘تريوس أميغوس (الأصدقاء الثلاثة)’ في الأسبوع الأول من هذا الشهر بمثابة مشكلة حلت ببلاده. جاء الضيفان، يقول الصحافي، ليحلا مشاكل غير التي تعاني منها المكسيك الموجوعة مرتين – من الأزمة الاقتصادية العالمية ومن أنفلونزا الخنازير. ‘لقد أفهمانا من دون ملينات ولا مسكنات بأنهما جاءا ليس لقمة أو حوار، بل ليتحدثا عن خططهما للمنطقة’، وخصوصا فيما يتعلق بمتطلبات الأمن والمصالح الأميركية. وكانت العناوين الرئيسية المعلنة توسيع التجارة الحرة بين البلدان الثلاث، حقوق العمالة المكسيكية غير الشرعية والمؤجلة حتى العام ,2010 تهريب المخدرات، مشاركة المكسيك في قوات حفظ السلام الدولية، وأخيرا أنفلونزا الخنازير، وغير ذلك. ‘ترى هل ستظل المكسيك مجرد مستقبل لتأثيرات الآخرين؟ مجرد سلة يرمى فيها أي شيء؟’1 – صيغة تساؤله تعني أن في فم هذا الصحافي ماء. ما لم يقله حول ما يدور في الخفاء بين البلدان الثلاثا ويحارب المتحدثون عنه في الصحافة قاله أحد المعلقين على المقال حين عبر عن قلقه من أن نصحو ذات يوم لنجد زعماء البلدان الثلاثة يعلنون عن قيام ‘الاتحاد الأميركي الشمالي’، وتبعا لذلك العملة الموحدة – الأميرو! وفي مقال قبل زمن تحدثنا عن عملة الأميرو المزمعة. وهي لا تزال كشبح خجول، لكنه يجول. وكالشبح فإنه يتراءى حينا ويختفي حينا آخر، منذ أن بحثته سرا قمة ‘تريوس أميغوس’ لأول مرة العام 2005 وافتضح أمره في برنامج المقدم التلفزيوني في سي إن إن المعروف لاري كينغ.
منذ ذلك الوقت تغير العالم كثيرا بعد انفجار الأزمة الاقتصادية والمالية وتطورها إلى أزمة سياسية عالمية. وخلال هذه الفترة ظلت تمثل أمام المراقبين والمحللين الاقتصاديين والمهتمين السياسيين ظاهرتان متسارعتان، متوازيتان، لكنهما متناقضتان في نفس الوقت: من جهة سعي أميركا الحثيث لتكون جاهزة للتخلص من الدولار، وبالتالي من التزاماتها، واستبداله بالأميرو في الوقت المناسب، ومن الأخرى سعي دول العالم، وخصوصا قواه الاقتصادية الريادية للتخلص من الدولار كعملة احتياطي عالمي وكوحدة منفردة في الحسابات والمعاملات العالمية، أي اللادولرة Dedollarization. ايهما سيحدث أسرع، صدور الأميرو أم اللادولرة ؟ هو السؤال الذي سيترتب عليه مستقبل النظام المالي، الاقتصادي والسياسي العالمي.
يشير الكاتب الاقتصادي الأميركي جريس هيدجز في مقالته ‘إفلاس الإمبراطورية الأميركية’ إلى أن الذين فعلوا فعلتهم في وول ستريت، والذين يسيطرون على وسائل الإعلام يحالون طمس الحقائق وإلهاء الأميركيين عن الحقيقة، ‘ولكن العالم كله يعرف أننا أصبحنا مفلسين’.2
في شهر يونيو/ حزيران الماضي عقد قادة بلدان منظمة شنغهاي قمة في مدينة إيكتيرينبورغ الروسية. واعتبر الاقتصادي الشهير هادسون في مقالته في الفايننشال تايمز ‘منعطف إيكتيرينبورغ: اللادولرة ونهاية الهيمنة المالية العسكرية الأميركية’ بأن هذه المدينة لم تكن فقط المكان الذي سجلت فيه نهاية عهد القيصرية الروسية، وإنما نهاية الإمبراطورية الأميركية أيضا. أجل، إن الصين، روسيا، الهند، باكستان وإيران ستنشئ رسميا حلفا عسكريا – ماليا بهدف إزاحة أميركا من أوروآسيا. وأن الدولار سيتراجع إلى حد الاختفاء في المعاملات بين دول هذه المنطقة. كما أن الصين قد أبرمت مع كل من البرازيل وماليزيا اتفاقيات تجارية تقضي بالتعامل باليوان الصيني على حساب الدولار واليورو والجنيه الاسترلينيني. كما تتجه روسيا إلى اعتماد الروبل عملة حسابية في معاملتها مع عدد من دول العالم. ولا يخفي الرئيس الروسي أن هدف كل هذه الجهود هو خلق عالم متعدد الأقطاب الذي سيهدم الهيمنة الاقتصادية، وبالتالي العسكرية الأميركية. ومن عمليات اللادولرة الجارية توجه الصين بتسارع لتحويل دولاراتها إلى أصول كإقدام ألمنيوم كورب أوف تشاينا على تنازلات محسوسة في عملية شراء أسهم شركة ريو تينت الاسترالية الاستخراجية بقيمة 19.5 مليار دولار.
إذا ما أضفنا إلى هذه العمليات العالمية الكبرى حصيلة توجهات مناطق إقليمية مختلفة من العالم كالوحدة النقدية الخليجية التي يدور الحديث بقوة عن عدم ربط عملتها بالدولار، خصوصا بعد أن فكت الكويت ارتباط عملتها به وأقدمت السعودية على هامش استقلالي في تحديد سعر الفائدة على الريال، وإقدام عدد من دول الخليج على تحويل أموالها إلى استثمارات زراعية في بلدان ثالثة.. إلخ، فإننا حقا أمام ظاهرة عالمية لعملية اللادولرة. هذه العمليات إذ ستنقذ اقتصادات بلدانها فإنها أيضا ستسرع من تدهور الهرم المالي الدولاري وانهياره، وبالتالي إضعاف إمكانية الولايات المتحدة لتمويل الميزانية العسكرية التي وصلت في العام المالي 2008 إلى 623 مليار دولار (الصين 65 مليار دولار). غير أن إنعكاسات ذلك ليس على قوة أميركا وجبروتها العالمي فقط، وإنما على تكاليف المعيشة والخدمات الصحية وعلى احتمال ذوبان أموال صندوق التقاعد واشتداد التوجه نحو خصخصة مؤسسات الخدمات وغيرها ما سيزيد في أسعار الخدمات ويدفع إلى التخلص من العمالة. باختصار ففي الداخل أيضا ستواجه أميركا احتدادا في التناقضات الاجتماعية. وباحتساب هذه العوامل مجتمعة فإن حديثَ كثيرٍ من الخبراء الأميركيين وغيرهم عن أفول الإمبراطورية الأميركية ليس من فراغ.
هل ستنجح أميركا، كما نجحت العام 1971 حين تخلت عن برايتن ووزدز، في مفاجأة العالم بلجوئها هي إلى اللادولرة العكسية، أي بإطلاق عملة الأميرو قبل أن تمضي عملية اللادولرة العالمية إلى نهاياتها المنطقية؟ الأكيد أن الأمور لن تبقى كما كانت، لكن السؤال المطروح سيبقى محيرا إلى حين.

1 “La Cronica”, Mexico,Carlos Ferreyra, 09.08.2009
2 “RINF News”, London,Chris Hedges), 17.06.2009
 
صحيفة الوقت
17 اغسطس 2009