المنشور

المثقف والسلطة.. سولجنستين نموذجا

من نافلة القول ان بروز المبدعين والمثقفين والفنانين والعلماء الكبار من ذوي النوابغ الاستثنائية في أي دولة من دول العالم هو مبعث لافتخار قيادة الدولة لا شعبها فحسب، لكن هذه البديهية لا تصح من قبل الدولة، وبخاصة اذا ما كان نظامها شموليا شديد التسلط، إلا اذا كان اولئك المبدعون والعلماء والمثقفون يسخرون ابداعاتهم وكتاباتهم لصالح ذلك النظام الشمولي الشديد التسلط.. فهنا تنتاب النظام نشوة من الابتهاج والتباهي ما بعدها نشوة إذا ما حاز احد من اولئك المبدعين والمثقفين جائزة ما عربية او دولية مهما كان مستواها ومهما كانت قيمتها او سمعتها العالمية ذلك بأن النظام يرى مثل هذا التقدير اعترافا ضمنيا بدوره في احتضان المواهب والكفاءات العلمية، او دلالة على شعبيته وصحة سياساته.
لكن اذا برز احد من النوابغ الكفاءات في أي مجال من مجالات الفكر والثقافة والفنون والعلم، وحصل على أي شكل من أشكال التقدير والتكريم العربية او الدولية وكان معروفاً بمواقفه المعارضة لسياسات النظام، فإنه سيكون محظوظاً اذا ما اكتفى نظام بلاده بتجاهله بمختلف الوسائل، بما في ذلك تجاهل وصمت جميع وسائله الاعلامية، صمتا مطبقا تجاه هذا التقدير حتى لو احتفت به كل وسائل الاعلام العالمية، بل لربما سيكون محظوظاً بدرجة أقل ان نطقت وسائل اعلام النظام كفراً تجاه المبدع المكرم فهاجمت تكريمه وجردت أعماله من استحقاق التميز ومن التكريم. ذلك بأن الانظمة الشمولية الاشد سطوة عادة ما يستبد بها الحنق والغيرة الشديدة اذا ما نال مبدع أو عالم من ابناء الوطن تكريما او تقديرا دوليا فيزداد حقدها على المبدع أو العالم ولا تتوانى عن الامعان في التنكيل به مجدداً بأي صورة من صور التنكيل والبطش، كالاعتقال أو التعذيب او الفصل من العمل او النفي او تجريده من الجنسية.
وهنا بالضبط تكمن مشكلة مثل تلك الانظمة الشمولية، فهي لا تعد نوابغ الوطن، من كبار مثقفيه وفنانيه وادبائه وعلمائه، مصدر فخر للوطن بأكمله، شعباً ودولة، سواء اكان اولئك النوابغ يعارضون سياساتها ام يتوافقون معها، كما في الانظمة الديمقراطية الغربية التي تبتهج وتفخر بنوابغها أيا تكن مواقفهم وسياساتهم تجاهها، بل تعدهم – الانظمة الشمولية – شياطين ومأجورين للخارج ولم يكافأوا إلا بصفتهم كهذه ولخيانتهم أوطانهم، فخيانة النظام تتساوى في عرف هذه الانظمة مع خيانة الأوطان، فالنظام هو الوطن والوطن هو النظام.. والدولة هي الشعب والشعب هو الدولة، وأي فصل بين الاثنين هو من قبيل الهرطقة المغرضة.
بكل تلك المعاني واستناداً الى هذه المقدمة التي اضطررنا إلى الاسهاب فيها يمكن فهم مأساة الكاتب والروائي والمفكر والمؤرخ الروسي العالمي النابغة الكسندر سولجنستين الذي احتفلت روسيا قبل أيام بالذكرى السنوية لرحيله بعد حياة حافلة مديدة (90 عاماً) بسنوات التضحيات العجاف والصمود في وجه عسف الشمولية الشيوعية تخللها الخصب الابداعي المتدفق والمتجدد في آن معاً، حتى آخر لحظة من حياته.
كان بامكان العبقري المبدع والمفكر الكبير سولجنستين من موقعه المستقل ان يضيف الكثير من العطاء للفكر والتطبيق الاشتراكيين للنظام السياسي لبلاده بما يثري الثقافة والفكر فيها من مختلف الروافد لو ترك النظام هذا المفكر وشأنه ولم يحص عليه عدد انفاسه وانات قلبه، لكن ضيق افق الشمولية الستالينية الذي حدد ضيق افقها بأي رأي آخر تراه يمس او يسيء إلى عبقريتها الفكرية او يشكل تهديداً لوجودها لم تدع ينابيع الابداع لهذا المفكر المبدع ان تتفجر في الهواء الطلق بل ان تتدفق تحت عصارة ألم ومعاناة العسف الطويل داخل الوطن تارة وفي ظل ألم المنفى تارة اخرى، لتملأ هذه الينابيع 30 مجلداً عمل الراحل على جمعها خلال الاعوام الاخيرة من حياته. كل هذا العسف والمحن التي تعرض لها سولجنستين ولم يكن معارضاً منعزلاً عن النظام وعن حياة الشعب في برج عاجي، فهو الذي تيتم عن ابيه قبل ان يبصر الحياة وكان والده ضابط مدفعية في الجيش اثناء الحرب العالمية الأولى ومات في حادث مؤسف بعد عودته من الجبهة. اما الابن فقد التحق بالجيش في ظل الستالينية اثناء الحرب العالمية الثانية وحارب في مختلف الجبهات ضد الألمان ومنح عام 1943م وسام الحرب الوطنية. لكن كل ذلك لم يكن كافياً ليشفع له النظام جريمة نقده لستالين في رسائل متبادلة مع صديق طفولته فحكم عليه بالسجن في معسكر الاعتقال مدة 8 أعوام كان من ضمن ما اثمرت عنه روايته الشهيرة “في الدائرة الأولى”.
ورغم ما حصده من آلام وذكريات نفسية مريرة خلال السجن فإن ذلك لم يفت في عضده من ان يتفانى في تدريس ابناء الفلاحين في مدرسة قروية ويعيش في بيت الفلاحة ماتريونا زخاروفا حيث اثمر هذا العيش لاحقاً عن ولادة قصته “بيت ماتريونا”، وهكذا فإن سيف استبداد الستالينية ظل يلاحقه حتى في عهد خروشوف الذي كان أكبر منتقديها في مستهل حكمه، وظل هذا السيف يطارده وينال منه حتى في عصر بريجنيف.
ولما كانت مؤسسات المجتمع المدني للشمولية في أي بلد ليست سوى دمى او ابواق للنظام فإن اتحاد الكتاب السوفييت فصله عام 1969م وبعدها بعام نال جائزة نوبل للأدب ثم جرد من الجنسية ونفي عام 1974م وكان طبع فصول من روايته “ارخبيل الكولاك” عام 1989م هي اول بدايات رد الاعتبار إليه من نظام بلاده أي عشية سقوط النظام في عهد جورباتشوف ثم عاد بعد سقوطه عام 1994م واستقبل استقبال الابطال عابراً كل اقاليم البلاد في رحلة قطار من فلاديفوستك قادماً من منفاه في امريكا ليواصل اعماله الادبية وسلسلة مقالاته “شذرات”. والكاتب الذي فصله اتحاد الكتاب الواقع تحت قبضة الشمولية الحاكمة هو نفسه الذي استحدثت جائزة ادبية باسمه في روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي تمنح الى مشاهير العلماء والكتاب، وهو ذاته ايضاً الذي كان في مقدمة جنازته رئيس كان من كبار ضباط الجهاز الـ “كيه جي بي” الذي اجترح ملحمة اضطهاده الطويلة الا هو الرئيس بوتين.

صحيفة اخبار الخليج
17 اغسطس 2009