المنشور

المرحلة الثانية من انتفاضة يونيو

في حموة الشارع الإيراني غضبا من نتائج الانتخابات ’ وصفت نفسها المعارضة بأنها في حالة انتفاضة سياسية عارمة وعامة ’ ولا يعرف احد إلى أين تنتهي تلك الحالة من الغليان . ولم يكن في علم الطرفين المحافظ ولا الإصلاحيين المدى الذي سيمتد فيه الموج الإيراني أو يطل التنين برأسه بعد تاريخ مكبوت ’ ففلت الشارع أكثر من قدرة المعارضة أو المرشحين الخاسرين والذين يتهمون احمدي نجاد بالتزوير . تلك الحالة السياسية أخرجت المكبوت الإيراني الطويل لدولة دخلت مأزقا سياسيا في العمق من حالة الدولة الدينية المتزمتة إلى دولة أمنية أو بوليسية في مجتمع مدني حاول خلال الشهور الأولى من الحملة الانتخابية للرئاسة للتعبير عن مكنوناته ’ من خلال الحملات التي كانت تنطلق إلى انتخاب البرلمان أو نواب البلديات ’ غير إن المسار اليومي للدولة في السنوات الأخيرة كشفت أكثر وفي مظاهرها اليومية الملموسة مدى تدخل أجهز الإعلام والاستخبارات والقضاة في كل صغيرة وكبيرة في الحياة المدنية بما فيها ملاحقة الجيل الشاب في مظهره الاجتماعي وسلوكه المتعلق بحضارة الغرب والخارج معتبرين – تيار التشدد من المحافظين- إن ذلك خروج عن خط الثورة واستنفارها الأول العظيم . كانت إيران دائما تحمل المخاضات التاريخية الكبرى مثل بقية الشعوب ’ وهذا المنطق التاريخي جعل المراقبين يفسرون الأحداث من منظارين ’ الأول برؤية إن الانتفاضة استنفرت قواها واستنفذتها عند مرحلة الانتهاء من الانتخابات فيما يرى المنظور الثاني ’ أن الانتفاضة تستعد إلى مرحلة ثانية وبحاجة إلى التقاط الأنفاس لكي تستأنف احتجاجاتها بعد إعادة قراءة ما حدث خلال الأسابيع اللاحقة لنتائج الانتخابات وما تمخض عنها من قتل أبرياء واعتقال العشرات وجرح الكثيرين مما ادخل الحزن في البيت الإيراني وافقده الثقة في النظام والثورة وبدا يستعيد ذهنه حول أسئلة كثيرة. وكان من خطأ ممارسة النظام دخوله بعنف مفرط في مواجهة حركة الشارع الغاضب ’ في زمن الإعلام والصورة والأخبار الطيارة ’ مما جعل النظام محاصرا من كل الجهات في الداخل والخارج ’ غير إن الداخل هو البالون الذي يتمدد بسرعة تفوق قدرة الدولة الأمنية التي حّولت مناخ إيران فجأة إلى حالة طوارئ ’ مما يعني نقل مناخ الانتخابات الحرة إلى مناخ عكسي فاجأت الناس بشكل مثير ومرعب ’ وكلما حاولت العائلات إقامة مجالس تأنيب وجدت نفسها معرضة للرفض والمراقبة ’ مما فرض نفسه على النخب والصفوة السياسية في القمة وعلى الشارع الواسع من الشعب الإيراني المختنق بأزمات معيشية كثيرة. هذا التلاقي الاقتصادي والسياسي والاجتماعي معا ’والمتمظهر في قمة الهرم جاء واضحا في الأيام الأخيرة ’ مما ادخل الرئيس نفسه في حالة ارتباك مع التيار المحافظ والمرجعية العليا ورجال الدين ومجلس تشخيص النظام ’ فاخذ يضرب بسيفه يمينا وشمالا فأقال ما يقرب النصف من حكومته ’ والتي عددها 21 وزيرا مخالفا المادة 136 من الدستور الإيراني الذي لا يجيز في حالة إقالة نصف الحكومة أن يكون وضعها شرعيا مما يعني إن مجلس النواب يسحب منها ثقته ويعيد للانتخاب مرة أخرى. حاول الرئيس استخدام شطرنج عجوز في ترك وزير الثقافة كرقم فقط للموازنة ولكن الوزير رفض من تلقاء نفسه بعد أن وجد كرامته السياسية والشخصية لا تسمح له بالبقاء ’. ما قالته جريدة كيهان’ أعمق وابعد من ذلك باتهام مشائي ’’ بارتباطه بدولة أجنبية ’’ وانه يعد من العناصر الخطرة جدا لافتة إلى وجود اتصالات سرية بين جهات تدير مشائي والولايات المتحدة ’’ ولمجرد التوغل في عمق تلك الخطابات نرى مدى الصدع الناجم في جسد الهرم وقمته ’ فيما راحت أصوات المعارضة تدق في جسد الدولة الدينية ومؤسساتها طالبة من المرشد اتخاذ إجراء لإنهاء ’’ دولة الأمن ’’ التي فرضت في أعقاب الانتخابات الرئاسية فيما امتدت دعوتهم لرجال الدين في قم إلى وضع حد ’’ للقمع ’’الذي تمارسه السلطات والمناشدة بإطلاق سراح المعتقلين ’’ . بين منطقي دولة الأمن والقمع تدخل المؤسسة الدينية ودولتها السياسية في قمة الأزمة باحثة عن مخرج جديد لديمقراطيتها المشوهة التي بدت برأس حاد وأظافر مخيفة إزاء معارضة سلمية ومدنية ’ قد تدخل في المرحلة الثانية إلى حالة أوسع من الخلاف قد لا تقبل بنصف الحلول ’ وإنما تنتظر من موقف المؤسسة الدينية حلا ناجعا يرضيها أو بوضع المؤسسة الدينية أمام جمهورها الواسع في امتحان صعب للغاية . وسيكون إطلاق سراح المعتقلين دون شرط أو قيد سؤال يثير أسئلة عديدة للانتفاضة في مرحلتها الثانية وفي مناخات التأبين لقتلى كانوا يرددون بأصواتهم ’’ يسقط الدكتاتور ’’ فهل بالفعل بعد إقالة الرئيس لنصف وزرائه وتعيين ’’صهره ’’ دخل تلك المنطقة الرمادية من حكمه ؟ أمام انتفاضة يونيو فرصة تاريخية لن تتكرر ’ هو التفافها وراء متاريس الشارع المدنية وبناء جبهة عريضة ’ أعلن عنها الزعماء في الأيام الأخيرة مما يعني إننا أمام اصطفاف إيراني جديد في الدولة الدينية السياسية المترهلة بعد أربعة عقود من هيمنتها دون أي تغيير أو تجديد .
 
صحيفة الايام
16 اغسطس 2009