المنشور

الوعي الديني والليبرالية

تعرض علينا إيران في هذه الأيام أشرطة الصراعِ الدرامي بين التقليديين والليبراليين، ولقد رأتْ الأممُ الإسلاميةُ صراعاتٍ مماثلةً ولكن ليس بطريقةِ المسرح الثوري العريض، وغالباً ما تكون عبر مشاهد جزئية ملتوية، بعيدةٍ عن حضورِ الجماهير، الذي هو مبعثُ خوفٍ رهيبٍ غالباً للسياسيين محافظين أم عسكريين انقلابيين.
كانت القوى الليبرالية الوطنية والقومية هي الوحيدة خلال مشاهد التاريخ الماضي العربي أو الإسلامي العريض من كانت ملاصقة للجمهور، ومن تستدعيه من دون خوف، ومن تجعله مشاركاً في دراما التاريخ، في أحداث سياسية ملتهبة، وليس في زفات مرسومة سلفاً وليس فيها صراع.
وقد عرفت الحركة الإيرانية الدينية هذا الطابع الشعبي المعارض كجزءٍ من تقاليدها التاريخية، ولكنها الآن تنعطفُ لتناقضَ هذه التقاليدَ الدينيةَ التي جرت في أرديةٍ فكرية محافظة، وتحاولُ أن تقودَها للحداثةِ ولليبراليةِ والحريات.
إن مضمون هذه الليبرالية ضيق بالتأكيد وهي متوارية تحت أرديةٍ دينية، لكون الفئات الوسطى المنتجة خلال هذه العقود الأخيرة سبحت في مياه الرأسمال الحكومي الديني عبر هذه الصيغة المتداخلة. فلا يظهر مديرُ المؤسسة الاقتصادية الحكومية إلا من تحت العباءة الدينية، وكذلك الأستاذ الجامعي، الذي يجدُ نفسَهُ مراقباً ولا يستطيع أن ينتج أفكاراً مغايرة للنظام. وإذا حاول أن يقيم صلات مع الطلبة أو مع الجمهور العريض فلابد من الوسائط، أي من التقية، أو من الأفكار الوسيطة بين الإسلإم والحداثة بمعاييرها الغربية الراهنة المستولية على العالم في أفقها التحويلي وعند محطتها الإيرانية الخاصة.
فالإصلاحيون يقولون إن هذه الأفكار المطروحة هي أفكار الإسلام وأفكار النظام (الجمهوري الإسلامي)، (وإننا لا نأتي بجديد)، ولهذا فإنهم يشتغلون على الحلول الوسط بين تراثهم الديني الخاص وبين الحداثة، ويحاولون خلق شيءٍ مشترك.
إن طبيعة هؤلاء الإصلاحيين القادمين من الرأسمال الحكومي لا تتيح لهم حداثةً بمعايير ثورية، علمانية، تقدمية، فرساميلهم لم تتكون من خلال فائضهم النقدي الخاص الحر بل من خلال رواتبهم القادمة من الحكومة، وهذه تشكلُ فئةً وسطى تابعة للجهاز الحكومي الاقتصادي وللجهاز السياسي المنبثقِ عنه، وفي حين كان مير موسوي قائداً للقطاع العام توجهَ صوبَ القطاع العام الكلي، المهيمن على الاقتصاد، فضيقَ الخناقَ على الفئات الوسطى الحرة، أي الفئات الوسطى القادمة من السوق، وعبر فوائضها النقدية الخاصة.
وهذا ما جعلَ خطابَهُ السياسي ضمن مفردات النظام العامة، كولاية الفقيه وهو ما يعني خلق نظام شمولي، وإلى ما يوجه أفكارَهُ السياسية باتجاه القطاع العام وهيمنته على الاقتصاد، وبالتالي فإن الدعم من البازار غير ممكنٍ في هذه الحالة، فلم تجدْ الفئاتُ الوسطى التجارية الكبيرة المؤثرة رمزاً مناسباً لها، مثلما أن القطاعات العامة العسكرية والمدنية هيمنت على الأسواق ومصادر الدخل الأساسية ولها كل الرموز المسيطرة.
فالمعركة بالنسبة الى موسوي تجري كأن الوعي الاثني عشري كما يفهمه متوحدٌ مع الوعي القومي التحرري السابق عند السنة كما جرى أيام عبدالناصر، عبر الحفاظ على المظلة الدينية التقليدية ومقاومة الاستعمار، من دون حفر فكري عميق داخلها لجعلها مناسبة لتطورات أكبر، أي لإنشاء دولة ديمقراطية علمانية إسلامية، للبلد ولتجارب الأمم الإسلامية، لكن مع خلق تجربة حريات سياسية وفكرية، وهو جانبٌ تجاوز فيه الحركة القومية العربية السنية، بذكوريتها الشديدة ومحافظتها السياسية.
وهذا بسببِ تأخرِ لحاقِ الأقسامِ الاثني عشرية بحركةِ التحرر العربية والإسلامية، وهذا اللحاق المتأخر بسبب طبيعة التكوين الريفي السائد لهذه الأقسام، ومع هذا أمكنه نظراً لحلبة إيران الخاصة، أن يتجاوز مستوى حركة عبدالناصر أو غيره من قادة التحرر العربي (المدنيين) السنة، عبر هذا التركيز في الحريات العامة والديمقراطية الجنينية التي تنمو بين التأييد الشعبي الكاسح والقمع.
وبسبب مقاومة الأجهزة العسكرية الكثيرة والبيروقراطية التي ألحقت أقساماً كبيرة من السكان بإنتاجها وسطوتها، فإن الضعف السياسي لهذه الحركة الليبرالية الديمقراطية، والمعبر عنه بضعف نفوذ المراجع الشيعية الديمقراطية وسط كتلة كبيرة من المحافظين، لا تعود أسبابه إلى ضعف انتشار الشعارات والتكتيكات السياسية الخاصة بالنضال وسط الجمهور، بل لسيطرة القطاعات العامة على هذا الجمهور وعلى معيشته.
فقوى الليبرالية والديمقراطية لم تخلق وسائل العيش الضرورية لهذا الجمهور لكي يكون ديمقراطيا، والناس لا تطير في الهواء، بل تمشي على الأرض الاقتصادية والسياسية، ولهذا فرغم أن الفقه الشيعي يحوي الكثير من الاجتهادات في فقه الحرية بجرأة كما طرح العديد من المراجع الفتاوى المتعلقة ببطلان انتخاب الرئيس محمود أحمدي نجاد، فإن الفقه لا يستطيع أن يشكل قفزة وحده.
إن المسار الاقتصادي المركب بين رأسماليتين: حكومية مهيمنة وخاصة مُقزمة، يخلق نسبة التداول الفكري والاستعداد الجماهيري، والشعارات المتداخلة بين عام وخاص، ومعبرة عن هذا المأزق للمسار الاقتصادي وللمسار السياسي.
إن ضعف التفاف الجمهور على الحركة يعود لضعف خطاب موسوي تجاه إصلاح القطاع العام، ونظام الجيش، وضعف تصوره لتطوير وحرية القطاع الخاص، فوقع ضحية بين القطاعين وظلت لغته نضالية جزئية بينهما.

صحيفة اخبار الخليج
11 اغسطس 2009