المنشور

زيارة قصيرة بأثر استراتيجي بعيد

زيارة رئيس الوزراء الروسي بوتين إلى تركيا الأسبوع الماضي استغرقت ساعات فقط، وركزت على الاتفاقات الاقتصادية بين البلدين. غير أن الاتحاد الروسي التركي الجيواقتصادي الذي سينجم عنها هو ما سمح لرئيس الوزراء التركي طيب أردوغان بالحديث في المؤتمر الصحافي عن ‘تعاون استراتيجي’. وسيكون لهذا التعاون انعكاساته الجيوسياسية الجدية على منطقتي الشرق الأوسط والقوقاز، كما على القارة الأوروبية. وستصبح تركيا في بؤرة كثير من مشاريع الطاقة لتغدو لاعبا مقررا في الحياة الدولية.
كان العنوان الرئيس لهذه الزيارة هو توقيع بروتوكول حول التعاون في مجال الغاز، الذي سيحول تركيا من حيث الجوهر إلى أهم دولة ترانزيت لنقل الغاز الروسي. ويعطي هذا الاتفاق إشارة البدء للأعمال التطبيقية لبناء خطي أنابيب نقل الغاز المعروفين باسمي ‘التيار الجنوبي’ و’التيار الأزرق – .’2 وسيبدأ الروس والإيطاليون العام 2010 وينهون في العام 2015 بناء مشروع ‘التيار الجنوبي’ من نوفوروسيسك ممتدا على قاع البحر الأسود ليصب في ميناء فارنا البلغاري. ومن هناك سيتفرع عبر شبه جزيرة البلقان إلى خطين، أحدهما إلى إيطاليا والآخر إلى النمسا. وسينقل ‘التيار الجنوبي’ نحو 35% من الغاز الروسي إلى أوروبا مقللا الاعتماد على البلدان التي تسببت في مشاكل بين المصدّر والمشترين. خط ‘التيار الأزرق – 2’ يعني امتداد خط ‘التيار الأزرق’ الروسي التركي ليصب في بلدان ثالثة في أوروبا معززا تنوع خيارات الدول الأوروبية في طرق إمدادات الغاز.
الطاقة النووية شكلت الوجه الآخر للتعاون الروسي التركي في مجال الطاقة، حيث تم التوقيع على اتفاقيتين حكوميتين للتعاون في مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية والإشعار المتبادل حول الكوارث النووية وتبادل المعلومات بشأن المفاعلات النووية. فحتى العام 2012 سوف يكتمل في مدينة مرسين التركية الواقعة على البحر الأبيض المتوسط بناء مجمعات أربعة لمحطة طاقة ذرية بقدرة 4 غيغاوات. وللمقارنة فإن هذا يعادل مرة ونصف المرة ما تنتجه مجتمعة محطات توليد الطاقة الكهربائية الأربع الحكومية والاثنتين التابعتين للقطاع الخاص في مملكة البحرين.
إجمالا، في هذه الزيارة القصيرة وقع البلدان على 15 اتفاقية حكومية وسبع بروتوكولات خاصة شملت مجالات الاقتصاد والعلوم والتعليم والثقافة والرياضة ومشاريع أعمال ضخمة متعددة. كما اتفق على فتح ‘مسارين أخضرين’ إضافيين – بحري وبري، لتعزيز التبادل التجاري وتوسيع قائمة السلع المتبادلة في الاتجاهين. إنها حزمة من الاتفاقات لم يشهد تاريخ العلاقات بين البلدين لها مثيلا. والحقيقة أن العلاقات تتطور في هذا الاتجاه منذ سنوات حتى أصبحت تركيا تحتل المرتبة الخامسة بين شركاء روسيا التجاريين. فقد ارتفع حجم التبادل التجاري بينهما من 11 مليار إلى 40 مليار دولار فيما بين عامي 2004 و.2008 وبين عامي 2007 و2008 فقط حقق هذا الارتفاع قفزة بلغت 50%. وقد بلغ حجم الاستثمارات التركية في روسيا قرابة 7 مليار دولار، والروسية في تركيا قرابة 4 مليار دولار.
لم تكن تركيا لتهدف من وراء الصفقات بشأن ‘الذهب الأزرق’ مع مختلف البلدان لأن تكون مجرد بلد ترانزيت لنقله فقط. لقد رمت إلى أكثر من ذلك بحيث تصبح مشتر لقسم من غاز روسيا ودول آسيا الوسطى لتعيد بيعه على البلدان الأوروبية. وقد سبق أن وقعت أنقرة اتفاقا حول خط أنابيب (NABUCCO) لنقل الغاز من منطقة قزوين إلى تركيا دون المرور بروسيا. وإلى حد بعيد ذكَّر ذلك موسكو بفكرة مد خط أنابيب نقل النفط (باكو – تبيليسي – جيهان) التي أطلقت بإيعاز من الولايات المتحدة الأميركية والذي استعرت بشأنه مكائد ومناورات سياسية جمة. من الجهة الأخرى، وعلى إثر الأزمة حول الغاز الروسي المصدر لأوروبا عبر أراضي أوكرانيا وتصريح الاتحاد الأوروبي بشأن تخفيف الاعتماد على الغاز الروسي استفادت روسيا درسا بأن الاتفاق مع أوكرانيا ثانية حول استخدام مياهها الإقليمية في البحر الأسود معبرا لخط ‘التيار الجنوبي’ سيكون هو الآخر محفوفا بالمخاطر. وسيجعل منه حجة إضافية لما وجدته روسيا عملا ممنهجا لإزاحة شركة ‘غازوبروم’ الروسية من سوق الغاز في أوروبا. وتيقنت روسيا من ذلك أكثر عندما لاحظت تعطيل معاملات إنجاز خط ‘التيار الشمالي’ وتلميحات الحكومة البلغارية الجديدة بإعادة النظر أو بتجميد عقود مشروعات الطاقة الضخمة المبرمة بينها وروسيا بشأن بناء خط نقل غاز ‘التيار الجنوبي’ وخط بورغاس – ألكسندربوليس وتصريح أشهباد بشأن استعداداها لتقديم غاز إضافي لخط (NABUCCO). تركيا كانت تنظر إلى انخراطها في مشروع هذا الخط الأخير بمثابة شهادة حسن سلوك لتسريع انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي. غير أن تركيا تيقنت في الأخير بأن ذلك لم يشفع لها.
هذه الحالة وضعت كلا من روسيا وتركيا أمام تحديات الدفاع عن مصالحهما المشتركة. ونشطت الاتصالات بين الطرفين وتقاربت مواقفهما ليس حول مركب علاقاتهما الثنائية فقط، بل وبشأن القضايا الإقليمية والدولية، فنشطا في البحث عن طروحات مشتركة لحل كثير من هذه القضايا. وبالفعل، في الذكرى الأولى للحرب الروسية الجورجية التي صادفت وقت زيارة رئيس الوزراء الروسي لتركيا ذكَّرت الصحافة التركية بأنه في حين نشطت إدارة الرئيس بوش من أجل ضرب طوق من العزلة حول روسيا، فإن تركيا بالضد من ذلك كثفت اتصالاتها مع موسكو ووقفت إلى جانب مبادرة بناء ‘البيت القوقازي’. كما ساهمت بنشاط في حلحلة النزاع حول كاراباخ بين أرمينيا وأذربيجان. كما تنظر روسيا بعين الرضا إلى تحرك تركيا عن أهم القضايا السياسية في منطقة الشرق الأوسط، بما فيها القضية الفلسطينية.
لقد ترجمت هذه الزيارة القصيرة التطور النوعي في العلاقات الروسية التركية للسنوات الأخيرة وتوجته بتسجيل بداية لمنعطف تاريخي سيكون له دور مقرر في وجهة التطور العالمي في المرحلة المقبلة، ومن باب العصب الأهم (الغاز).

صحيفة الوقت
10 اغسطس 2009