المنشور

منظر السائد

لابد أن يكون في البداية مغروراً متعالياً، محدود الثقافة، يستند إلى شعارات ميكانيكية سطحية وأن يكون ذا قدرة على الكتابة متوسطة، يحول الكتابة إلى وسيلة تسلق لا تنوير وتحليل.
وإذا كانت أكل عيش فهي مقبولة لا أن تكون تدعيم أسس معتمة شريرة في الحياة.
ووحدها المصادفات التاريخية التي تتيح له فرصة الصعود قرب دكتاتور ذي تطلعات كبيرة في لحظة تاريخية مليئة بالصراعات، فيتضافر جمود الهياكل السياسية ومغامراتها مع تشويه الوعي.
ومُنظر الدكتاتورية لا يحفرُ معرفة، ولا يصدمُ ثقافة تقليدية، بل يعيش على هذه الثقافة التقليدية المدمرة للأمة، لكنه ينفخُ فيها ويصورها بغير حقيقتها، من أجل أن يكون قرب الدكتاتور السياسي.
النقص في الزعيم السياسي يكمله المنظر الايديولوجي.
المفكر الحقيقي لا يعيش على المستنقعات السياسية ولا المجاري ولا يستغل انتفاخ الدكتاتور ونقص معرفته، لكن الكاتبَ الزائفَ يجد من عقدة نقصه، ومن تفاهة منبته، ومن جلافة اخلاقه، خصالاً تعينه على التسلق.
أي دكتاتور عربي يصعدُ يعرقلُ عادةً مشروعات الديمقراطية الحقيقية المتصاعدة في المجتمع، ويطرح دعاوى شتى للخروج عن الديمقراطية والحداثة، وأن تكون السلطات بين يديه.
وهو لا يستطيع أن يبرر ذلك ويقنع الناس، بل يلجأ إلى المثقف الاحتيالي، الذي يمتلك بعض المهارات في الكتابة.
هكذا كان صعود الحركات والحكومات الشمولية العربية بحاجة إلى أقلام تسوقها، ولابد أن يكون ذلك عبر دغدغة مشاعر العامة، باستخدام أساليب بيانية متوسطة عموماً، ليست بها ذرى من المعرفة والأدب والحكمة، وليست مجارية لكنوز الثقافة الإنسانية، بل ترتكز على التحليلات السطحية، والقضايا الحادة التي تمر بها الأمة كالاستعمار والسيطرة الصهيونية ومقارنات الفقر والغنى، ولا يمكن الخروج منها لتحليلات معمقة للبنى الاقتصادية للغرب أو للحياة العربية ماضياً وحاضراً، وقراءة تاريخ العالم والحركات، بل يتم الاعتماد على الإنشائية العاطفية مثل:
الاستعمار يدمرنا ويسحق بلداننا والصهيونية الغاصبة العدوانية تغزو ديارنا والحكومات العربية تساعدها وأوطاننا عرضة للخراب والدمار الخ.. ومثل هذه العبارات التي لم تتغير خلال عقود.
وفي هذا الوعي ليس ثمة فرق بين الاستعمار أيام العدوان الثلاثي وسياسة الحكومات الغربية هذه الأيام، ولا فرق في الحكومات العربية بين تلك الأيام الخمسينية وهذه الأيام، فالجوهر العربي الذي هو خارج التاريخ عبر تصوره يتعرض للتدنيس، ويحتاج إلى دكتاتور يرفعه من الحضيص إلى ذروة المجد.
الكتبة الصغار يظلون في المرجعيات الصغيرة لكن المنظر الذي له بعض الموهبة يحول ذلك إلى فلسفة سياسية فيقول ان الزعيم لا يحتاج إلى دستور يقيده، فهو صانع الثورة، إنه فوق القانون أو القانون الأساسي أو الدستور وهي كلها مسميات واحدة فيصبح هو مصدر السلطات، مثل ما يدور الآن حول الولي الفقيه لابد أن تعلو إرادته على مؤسسات المجتمع، ولا فرق بين التيارات السياسية السائدة في ذلك التي لا تقوم على أبنية ديمقراطية والتي هي ورث لزعامات محافظة غالباً.
يقوم المنظرُ بتبرير الدكتاتورية على المستوى السياسي العام، ويقوم الكتبة بتنظيرها على مستوى الأحداث الصغيرة والمقالات اليومية، وبخلاف الكتبة ينهض المفكر لتحليل القضايا الكبرى، وصراع الأمم والتصدي للهيمنات، فيرى الأمة العربية ماضياً وحاضراً باللون نفسه، ويرى في الزعيم فرداً اعتلى فوق تضاريس التاريخ وتوحد بالرسالات وذاب عنصره في أهداف الأمة، وإذا كان الزعيم ينتمي إلى جماعة عسكرية، أو جماعة مدنية أو عصبة عشائرية، تم وضع هذه الجماعات الصغيرة في لحظة مقدسة من تاريخ الأمة، فهي قد تلاقت مع القيم والرسالات الربانية، أو احتوت على عناصر فريدة قلما تجتمع في أي لحظة من لحظات التاريخ، أو أنها انفجرت بعطائها في تجربة خالدة من تجارب الجماعة الإسلامية، أو أنها احتوت على الجوهر العمالي المطلق المزيل للاستعلال إلى الأبد، أو كانت تتويجاً لولادات طاهرة وغير هذا من السفاسف التي تغدو ركائز خطرة مع هذا لحياة وموت الملايين.
غالباً ما يلتقي غرور المنظر غرور القائد، وان تصويرَ الزعيم السياسي كرجل خارق للقانون البشري ذي معجزات، يُقصد به إنه خارق للدستور أو مواد العقوبات وغيرها من الأشياء المفهومة الواقعية، ولهذا فإن المنظر ذا الأصل المتواضع يريد هو الآخر أن يخرق قانون التطور الاجتماعي وقانون الرواتب والعلاوات. وسوف يستفيد المنظر من ذلك ليؤسس ثروة وجذوراً وجماعة، وربما ذهب الدكتاتور وزال، لكن المنظر يبقى يبثُ قيم طاعة المستبدين (الأخيار) هذه عبر الأجيال.
يجرى خلق استثنائيات للبطل المعبود ولخارقي الدساتير والقوانين، مثلما تكون الأمة العربية أو الأمم الإسلامية في رأيهم خارجة عن القوانين التاريخية والسياسية لها تاريخ ديني وإنساني مختلف عن البشرية وعلومها، فلا الحدود ولا الحروب التي يشنها الدكتاتور ولا السياسات العقيم ولا التبذير ولا الجمود، بقادرة على إقناع المفكر والكتبة بأن الزعيم المطلق منقذ الأمة هو أخطر الخرافات، أي أخطر من الخرافات الشعبية.
وهم يحاولون أن يربطوا بين زعماء الشر المعاصرين وبين تاريخ الإسلام والأمم الإسلامية، في سبيل استمرار تبرير ما يقدمون عليه من تكوين جماعات استغلالية.
في حين كان الأمر مختلفاً لتأسيس النهضة الإسلامية، فالزعيم المنقذ كان دائماً في نظام ديمقراطي شعبي، وهو الذي كرس زعامته وحبه بين الناس.
ودائماً كانت الانتصارات تأتي من وجود تلك الديمقراطية وثمة فرق بين حروب وطنية خاضها النظام دفاعاً عن شعبه وشاركته الجماهير فيها وبين حروب الغزو والتدخلات في البلدان الأخرى ومحاولة تشكيل إمبراطورية لا تفشل فقط بل تجلب الخراب لتجربة النظام.
وهم المعاصرون لا يقبلون مناقشة هذه الزعامات بشكل موضوعي، وتشاركهم قوى من الناس تحولهم إلى اناس معبودين، رغم كل الأخطاء الكبيرة التي أجهضت تجارب تنموية كان من الممكن أن تقوم بالكثير.
وهكذا تعيش الأنظمة والجماعات على مثل هذا الوعي الساذج المستمر الرهيب، بين منظرين كبار وكتاب صغار منتشرين مثل الأوبئة، وهو وعي قديم في التاريخ وفي تسجيله حيث اقتصرت الكتابات التاريخية التقليدية على عروض لحياة الملوك والأمراء والرؤساء و”إنجازاتهم”، ولا تقيم هذه العروض وزناً لحياة الجمهور واحتجاجاته، وهذا الوعي هو الذي يسود في الكتابات، وفي الدول والتنظيمات، والزعيم فيها دائماً في مركز الإيجاب، وغائب عنه السلب والخطأ، ولهذا تتراكم الأخطاء وينتشر الكتاب المداحون وتضعف عقلية تطوير الحياة الواقعية الحقيقية، ولا ينمو الوعي الديمقراطي الموضوعي الذي يرى السلبيات والإيجابيات معاً.

صحيفة اخبار الخليج
8 اغسطس 2009