المنشور

سراب التغيير

تغدو التغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الدول الشرقية التقليدية المحافظة، ذات الأشكال البرلمانية الهشة والشكلية، مجرد زيادة في التوتر السياسي وتدور في حلقاتٍ مفرغة.
فالفئات الغنية والمتنفذة تستفيد من فترة السلام الاجتماعية لكي تتوسع في مشروعاتها من دون أي اهتمام بما يحدث من تحول سياسي، فهي تعتبرها فرصة للمشروعات الاقتصادية و(شفط) الأرباح بمعدلات عالية، في حين تبقى النقاشات السياسية والاجتماعية والقرارات السياسية لا تصل إلى الواقع وتغيره.
وهذا بسبب ضخامة الهيئات البيروقراطية في الدول الشرقية، فثمة أعداد هائلة من الموظفين الذين احتكروا القرارات خلال عقود، في كل المستويات، حتى قرارات كبار المسئولين تتعرض للتجميد أو المشي البطيء حتى تمر سنوات عليها، في حين تجري إيقاعات الحياة الاقتصادية بصور سريعة هائلة تغير الواقع كل يوم، وتجعل من تلك المشروعات ناقصة لو تمت بعد هذا الزمن والتحولات.
والهيئات البيروقراطية خلال هذين الزمنين السابق واللاحق التحمت بقوى النفوذ الاقتصادية المختلفة، فهناك من كون علاقات بين بعض الوزارات مثل الاقتصاد والمالية والعمل والإسكان وسلطات الموانئ وغيرها وبين قوى المال المختلفة، وهذه العلاقات تجعل فئات معينة هي التي تحصل على المكاسب الاقتصادية.
مثل موظف كبير يؤجر بناياته على من تطلبه الوزارات من خبراء ذوي رواتب عالية، وتقوم الجهات المعنية بإعطاء هؤلاء امتيازات خاصة تدخل من باب القانون وتفسره حسبما تريد.
والامتيازات والمنافع الاقتصادية تعطى لمن لهم علاقة.
ويتداخل هذا مع صناعة الرأي العام التي تركز في الإيجابي دائماً، وتتوارى منها التحليلات العميقة فتواصل البحيرة الراكدة إنتاج السموم المختلفة التي تسد المجاري الاجتماعية.
تستطيع الهيئات البيروقراطية أن تقتل كل تغيير على مراحل، أولاً تشيد به، ثم تنفذه بشكل خطوات صغيرة محدودة خاضعة للروتين، ثم تستل روحه وتحوله إلى هيكل عظمي، فيما هي تستمر في كونها قيادة المصالح.
ما أكثر ما غنت الدول الشرقية من أناشيد عن التغيير والإصلاح لكن الواقع ضئيل في التحول!
الواقع الحقيقي غير المحلل وغير المراقب الذي يعسر حتى على المتخصصين فهمه إلا عبر دراسات دقيقة، لكن الحال يستكشف بشكل ضمني أو حدسي من خلال بقاء الأشياء على حالها.
أكبر ديمقراطية في الشرق كالهند ملوثة تلوثاً شديداً بالبيروقراطية، والتطور تحدثه الشركات (الاستعمارية) القادمة من الخارج التي تكوّن أكبر المجمعات الصناعية والعلمية، نظراً لرخص الايدي العاملة الهندية فقط حيث الفقر لا مثيل له.
الديمقراطية الروسية هي ديمقراطية عصابات المافيا.
وتعيش الدول الشرقية بين ازدواجية الظاهر والباطن، المعلن والحقيقي، بين التصريحات الرسمية وتصاعد المشكلات والأسعار والبطالة في الواقع.
تجد المدن القديمة والأحياء الشعبية والقرى، حيث يسكن العاملون، هي مقياس التغير الحقيقي، وهي متوارية ومخفية بالمجمعات الحديثة وبكتل زاهية من العمارات التي شيدها المستثمرون بسرعة البرق ليجمعوا الأرباح، ووراء هذه الأحشاء الصغيرة غابات من الأحياء الرثة التي تنتج مختلف أنواع الأمراض والباقية عشرات السنين، وبين الجانبين جدار رقيق وهش.
مناظر زاهية تخفي أشياء بشعة، ولهذا فالحديث عن التنمية والفرص المشتركة وتغيير معيشة الفقراء كلها شعارات جميلة لا تأخذ طريقاً للواقع الحقيقي، لا الواقع الورقي ولا التلفزيوني المبهرج بالألوان.
ولهذا فإن الأحاديث عن المناطق القديمة المنهارة معيشيا وبنائيا غير مستحب إعلاميا، ولا تواجه تلفزيونيا، ودائماً هناك عبارات مستاءة: (الواقع ليس بهذا السوء) (ابتعدوا عن التشاؤم وتقبيح الحياة).
لا تستطيع كميات النقود الوافرة وأعمال بعض الحكومات الإصلاحية الناشدة التغيير أن تصل إلى هذا الواقع رغم كل جهودها.
والفقراء الذين صوتوا في الدورة الثالثة هم أنفسهم المصوتون في الدورة العاشرة لم تتغير أوضاعهم، زاد بعض الأجور قليلاً لكن ابتلعتها الأسعارُ المرتفعة وازدياد الأبناء وغلاء الإيجارات.
البيروقراطيات تتحكم في الحكومات والأحزاب والجمهور، بيدها قنوات النقود، وهي التي لها المتاجر والشركات والأراضي، ترفع الأسعار وتخفضها، تزيد العمالة وتقلصها، تفتح الأسواق وتوسعها وتلغي الأسواق القديمة لتبيعها ثانية.
هي الوسيط السياسي والوسيط المالي.
وجوهها تقع على المكاتب ووجوه أهلها تشتغل في التجارة والصناعة والدلالة، النقود تخرج من الأعلى لتضرب الأرض في الأسفل، وتتوجه للبنوك ولجزر البهاما، وكان التاجرُ موظفاً في الدولة، ثم صارت لديه المليارات، وكشفت الخسائر البنكية عمليات التلاعب وبيع الأراضي وكيفية تكوين الثروات التي كان يقوم بها على مدى سنوات.
المشروعات العامة مشروعات خاصة، تظهر حين تتفق قوى البيروقراطية على الاستفادة منها، تتلكأ حين لا تأتي النقود بسرعة ولا تستفيد القوى الخاصة وحين تظهر في وجهها العقبات والكشوف الصعبة، وتسرع حين تمتلئ الجيوب، وحين يظهر المرفق الذي يصل إلى المواطن العامل عليه أن يدفع الكثير حتى يحصل عليه.
ومن هنا تصاعد التباين بين من هم فوق ومن هم في الأسفل، من يوسعون ثراءهم في البلد والعالم، ومن يبقون على النمط نفسه من المعيشة الصعبة التي تزداد صعوبة ونزفاً.
ثم يفاجأ الجميع بأن الأوضاع لم تتغير، وأن الناس ضجوا وصرخوا، ولهذا دائماً أحداث الشرق على هيئة صواعق، تشابه عالمه الديني السحري، حيث ان الواقع غير مراقب، ويمشي مقلوباً، ويندس في المجاري التحتية الملوثة، ثم ينفجر على هيئة فيضانات في البلاعات وأعمال شغب مدمرة.

صحيفة اخبار الخليج
7 اغسطس 2009