المنشور

اغتيال الأشخاص.. اغتيال التاريخ

مر علينا الثالث والعشرين من يوليو دون التفاتة لزعيمه الراحل جمال عبدالناصر ولانقلابه وثورته العربية التي دشنت مرحلة فكرية وقومية جديدة سميت بالناصرية كفلسفة لنهج وطريق جديد توقف في منتصف الطريق بوفاة صاحبه، وان كانت الوفاة أيضا سؤالا غامضا في حينه، هل مات الزعيم بنوبة قلبية فعلا أم تم تسميمه؟ لسنا هنا الآن بصدد ما قاله الأطباء السوفييت مثلما لسنا هنا بصدد ما قاله الأطباء الفرنسيون بصدد عرفات، خاصة وإذا ما عرفنا ان الدول وأمنها يتم اختراقه من قبل امن دول أخرى ويتم شراء وتحريف والضغط على جهاته بما فيهم الأطباء وتقاريرهم. ومن يفترض غير ذلك يكون ساذجا ولا يدرك ما الذي يفعله امن الدول خلف الكواليس، وهي مكاتب تفوق قدرة ورغبة الساسة في لعبة تلك الدول. والأمن جهاز بيروقراطي واخطبوطي هائل ومتغلغل في جسد الأجهزة الداخلية والشبكات الخارجية السرية، ومع موت أشخاصها تموت أحيانا تلك الملفات. مرت المناسبة دون أن نتوقف لا إزاء الأشخاص ولا أمام التاريخ، متناسين بان رغم تداخل الأشخاص مع ذلك التاريخ باعتباره مرحلة من حياتهم ولكنها في الوقت ذاته تاريخ ممتد لما بعد موتهم، إذ تتواصل عملية السجال والأبحاث والتنقيب، بل والحركة الفكرية والحزبية التي تأصلت داخل أجيال تربت وعاشت تلك المرحلة. لهذا فالتاريخ عملية ممتدة لما بعد الموت الجسدي للأشخاص ودفنهم، فالتاريخ حياة خصبة وحية وحيوية بما تعكسه من عملية سياسية مستمرة. التاريخ سلسلة لا يمكننا قطعها بسهولة لكوننا دفنا الرجل في لحظة وداع وبكاء، ولكن ما لا يمكننا الهروب منه هو ان التاريخ يبقى في النهاية تاريخ ولا يمكننا لطم خدودنا وصنع تماثيلنا الرخامية وتدبيج كتبنا الذهبية بكل مقولات وخطب الزعيم. ما قاله أبراهام لنكولن الزعيم الكبير الذي حفرت خطبه أهم العبارات عن موضوعة الحرية ورحل برصاص الاغتيال، يظل درسا مدرسيا للشبيبة والمثقفين والساسة في الجامعات، ولكنهم حال تركهم المقاعد يبدأ عجلة الحياة تسرع خطاها نحو واقع جديد مختلف وثورات متتالية حداثية وتقنية، تجعل كل جيل ينظر للمستقبل وليس للوراء، فكل ما يمنحه للخلف هو التفاتة صغيرة لحب مجروح أما الالتفاتة للحاضر والمستقبل، فانه نظرة واقعية لا يمكنه التفريط في كل خطواتها وأهميتها. بين فكر النخبة وعقلية شارع جماهيري واسع هو مطحون بهموم الدنيا ومشغول بطلبيات الهمبورغر والهاتف النقال، وكل تناقضات الحياة الغرائبية بين الحلم والواقع، الشكل والمظهر وحالة البؤس الاجتماعية المتجذرة في تلك الأرقام والإحصائيات المخيفة، فان التاريخ والأشخاص يتحولان إلى شاشة مشوشة يسهل مغادرتها والبحث عن بديل لها. هكذا جلست أقلب بين حقيقتين حقيقة جيلي الذي عاش أربعة عقود من الصدمات وجيل الأبناء “الذي ليس مستعدا للاستماع لك” بل ويتضايق ويتثاءب إن قررت نشر حكايتك عليه. وما أثار الفجيعة عندي في هذه المناسبة ان موضوع عبدالناصر ترافق هذه الأيام مع نبش رسالة تسميم عرفات، ولكن التهمة هذه المرة ضد رفاق الدرب، والموجه لهم تهمة الاغتيال رفيق الدرب أيضا. فماذا جرى ويجري في البيت الفلسطيني؟ ما كتبه القدومي ونشره ليس قنبلة سياسية، ولكن الإعلام هو من أحالها إلى مذبحة دموية. ما ينبغي نبشه ليس الاغتيال بالتسميم أو الموت طبيعيا لرجل انتهت مرحلته، وهذه سنة الحياة والتاريخ، ولن يكون عرفات رجلا خارج التاريخ وكائنا استثنائيا عن كل تلك الشخصيات العالمية التي اغتيلت أو ماتت ومن ثم دخلت متحف الشمع البريطاني! ما يهم فتحه وهو الذي يتم الارتعاش منه كلما طرحناه هو مسألة أين الورثة المالية ورقمها الحقيقي؟! ومن هم الأشخاص الذين لديهم مفتاح الصندوق النووي الفلسطيني بعد عرفات؟ وهناك أسئلة تتعدى تاريخ وحياة زعيم الثورة الذي لا يحب بعضا من قادة فتح “فتح ملفاته” لكونها مرحلة لم تكن وردية وبأرقام المجد والبطولة وحدها أو بعبارة “نحن من ضحى وضحى وقدم الشهداء الخ… من مفردات التبجيل” في وقت عرف فيه التاريخ وجها رماديا آخر لكل الثورات وقادتها، وما يمكننا الصمت عنه هو سلوك الأشخاص الشخصي – انطلاقا لعبارة عربية، يجب مراعاة ظروف أهله الخ – ولكن ما لا يمكن الصمت عنه هو التاريخ، طالما ان الجميع يردد – الخصوم والمؤيدين – إن التاريخ ليس ملك احد وان عرفات ملك الشعب الفلسطيني والتاريخ الفلسطيني، فلماذا ترتعد وترتعش فرائص البعض عندما يقترب الباحثون والساسة والإعلاميون من أسئلة هامة لها علاقة بذلك التاريخ “المبجل” تاريخ صبية صغار ونساء وشعب وتاريخ ولكن بلا عناوين سياسية صارخة، أنها مواضيع وأفكار تمس جوهر القضية وملابساتها كتب عنها الشاعر محمود درويش قصائده الجميلة، ولسنا بحاجة الوقوف أمام قبره لمعرفة من قتل الشاعر؟ الحب أم التعب، اليأس أم الخطيئة والإحباط؟ هناك أسئلة أهم من القبر الرخامي وقبو الزنزانة والحصار، واهم من غرف لامعة نام على أسرتها الزعيم بعد القياصرة الروس وطائرات خرافية حلق بها من مدن النفط. إنها أسئلة التاريخ الموجعة.
 
صحيفة الايام
4 اغسطس 2009