المنشور

بين الأخلاق والسياسة

إنْ بنتيجة رصد الظواهر أو يسبب المعاناة الذاتية، أطلق كاتبان صحفيان مرموقان في الصحافة البحرينية الأسبوع الماضي إشارات تحذيرية مهمة عن ترافق هبوط أداء كثير من السياسيين بتدني المسلك الأخلاقي في التعامل مع بعضهم ومع حملة الأقلام والرأي العام عموما. تحت عنوان ‘نكايات السياسة’ كتب الأستاذ غسان الشهابي بأن ‘..السياسة استطاعت أن تشق لها طريقاً لا علاقة لها بالمشاعر أو الأخلاقيات، وسيكون غير سياسي من يدّعي ممارسة السياسة بسموٍّ خلقي..[1]’. وتحت عنوان ‘متوازيا الأخلاق والسياسة البحرينية’ كتب الأستاذ عقيل سوار ‘؟أن مشكلتنا السياسية تهون أمام مشكلتنا الأخلاقية، أو في أفضل الأحوال تتوازى معها..[2]’. وليس لدى كاتبينا العزيزين فقط، بل ولفرط ما وجده الناس من اختلاف بين أعمال وأقوال السياسيين، ومن نيل من حملة الرأي الآخر، ولما عرف في عالم السياسة بأن غريمي الأمس قد يمضيا هذه الليلة في سرير واحد، فقد تجذر في الوعي الاجتماعي في مجتمعنا ومجتمعات كثيرة أخرى أن السياسة بطبيعتها تتعارض والأخلاق، وأن العمل السياسي يتعارض بالطبيعة والسلوك الأخلاقي. ومع قرب الانتخابات النيابية والبلدية سنسمع كثيرا هذه المرة عن فنون التكنولوجيات السياسية، وسيرادفها الكثيرون بتفسير أن هذا المصطلح يعني بالضرورة تكنولوجيات الأساليب القذرة. و’سيبرر’ هذا الكلام ما سيتكشف فعلا من استخدامات لمثل هذه الأساليب في الحملات الانتخابية.
إن ما تجب الإشارة إليه في هذا الصدد هو أن في بلدان ‘الديمقراطيات الموجهة’ لا تجد القوى الموجهة غضاضة من ترويج فكرة أن ‘السياسة عمل قذر’. ذلك أن تعزيز موقف اللامبالاة لدى الجماهير حيال السياسة يصب في النهاية لصالح بعض السياسيين أنفسهم. ويخلق ذلك أحيانا هالة من القدسية حول السياسيين التقليديين المتنفذين أو الصاعدين الجدد بأنهم ‘خدام الشعب’. وبالتالي فإن عزوف غالبية الجماهير عن السياسة يحمي نخب السياسيين من اختراق أناس من خارج الحلقات المغلقة التي تتشكل عن طريق التحالفات الجديدة ما ظهر منها وما بطن.
الفكرة الصحيحة التي من زاويتها يجب أن ينظر إلى هذا الأمر هي أن السياسة تكون قذرة بالضبط بالقدر الذي تكون عليه دواخل الناس الذين ينتهجون تلك السياسة. غير أن حديثنا ليس عن السمات الأخلاقية للسياسيين كأفراد، بل نحو معرفة العلاقة المتبادلة بين السياسي والأخلاقي بما هما سياسة وأخلاق.
من الوهلة الأولى يبدو أن السياسة تنتمي إلى عالم الأفعال، أما الأخلاق فإلى عالم الأفكار. أكثر من ذلك أن الأخلاق تنتمي إلى عالم الأفكار الأكثر خصوصية، والمرتبطة مباشرة مع الأفعال التي تضبطها وتنظمها هذه الأفكار.
وإذا ما جئنا إلى مكان السياسة في الواقع المتعدد المستويات فسنجد أن مصدر أية سياسة هو أيديولوجيتها، أي الأيديولوجية السياسية. بمعنى آخر، أن أية سياسة ليست سوى تجسيد لهذه الأيديولوجية أو تلك، وإن فاعلية السياسية على المدى البعيد (وليس مجرد النجاح الصدفي أو العابر) تأتي نتيجة التجسيد الملائم للأيديولوجيا في الأفعال. وليس للعلاقة المتبادلة بين الأخلاق والأيديولوجية السياسية طابع الخضوعية التراتبية. إنهما نوعان من الأفكار الخاصة ينتميان إلى ذات المستوى المسؤول عن ضبط وتنظيم الأفعال، ولذلك فمن الطبيعي أن يكملا بعضهما بعضا. وعلى المستوى التطبيقي للأيديولجية، أي على المستوى السياسي، يعتبر اتباع المعايير الأخلاقية ضروري ليس من أجل مراعاة حسن المظهرية واستجداء تأييد الجماهير، بل من أجل التطبيق الملائم للأيديولوجية المرتبطة بأخلاقيات معينة بلا انفصام.
إذا خرقت تلك المعايير تعرضت الأيديولوجية ذاتها إلى التشويه، وبالتالي تتحول ‘تجسيداتها’ إلى كومة من المصادفات لا تجسد تلك الأيديولوجية فعلا. يحدث هذا في حالات، منها لدينا: أن كثيرا من السياسيين من مواقع مختلفة يخفون أيديولوجياتهم ويوهمون أنفسهم والجماهير بأنهم يتحركون في فضاء ‘لا أيديولوجي’. الصنف الآخر يتمثل في التكيف الأيديولوجي الذي يكتسب نفس مضمون سابقه. النتيجة الحتمية هي فشل هذه السياسة في تحقيق نجاحات فعلية، لتثير مقابل ذلك الشكوك الشعبية وتجعل من وضع السياسيين محاطا بالمخاطر. وبالمقابل تدب الفوضى في مختلف مناحي حياة المجتمع.
هذه السياسات ليست بلا أخلاقيات فحسب، بل إنها تنفي خضوعها للأيديولوجية التي جاءت تحت رايتها، وتعتبر مصدرها المصلحة الآنية، وليست الأيديولوجية السياسية، وبالتالي السياسة البعيدة المدى. وعندما يحدث ذلك لا يحلو للاعبي ضفتي ‘الديمقراطية الموجهة’ الترويج لفكرة ‘السياسة عالم قذر’ فحسب، بل والأنكى من ذلك إبعاد المناوئين عن الساحة السياسية إما عن طريق ترسانة القوانين المقيدة للحريات أو عن طريق المكائد أو القمع الفكري أو التهديد باستخدام القوة أو استخدامها. غير أن أشكال القمع، من أي موقع جاءت، ليست سوى ثمرة لتخيلات الأخلاق الكاذبة، المبنية على أيديولوجية مغيبة أو مشوهة، حيث يهدف متبعوها إلى تقييد عقول الجماهير بدلا من إطلاقها.
مثل هذا التشويه للعلاقات المتبادلة الصحيحة والمطلوبة بين السياسة والأخلاق يشكل الطابع العام لحالات كثير من البلدان في عالم اليوم. لكنه في الوقت نفسه تعبير عن الأزمة الأيديولوجية للقوى السياسية التي تجعل من المصالح الآنية غايات سامية لها وتبرر وسائل تحقيقها على حساب المعايير الأخلاقية.

[1] راجع: صحيفة ‘الوقت’، 27 يوليو/ تموز .2009
[2] انظر: صحيفة ‘الوطن’، 30 يوليو/ تموز .2009

صحيفة الوقت
3 اغسطس 2009