المنشور

شهادات في هزيمة يونيو 67 (2)

من خلال متابعاتي الشخصية فإن الشهادة التي أدلى بها إلى قناة “روسيا اليوم” المستشار الاقتصادي السابق في سفارة الاتحاد السوفيتي بالقاهرة بافل أكوبوف الذي يشغل الآن رئيس رابطة دبلوماسيي الخارجية الروسية ونائب رئيس رابطة السياسة الخارجية الروسية، سبق أن أدلى بها ذاتها في سياق مقال له تحت عنوان “روسيا والعالم العربي” في كتاب ضم مجموعة من المقالات والدراسات لساسة ومثقفين روس بعنوان “الثقافتان العربية والروسية اليوم” ترجمة الدكتور نوفل نيوف الى العربية وصدر عن دار المدى العراقية عام 2006م.
وهذه الشهادة، كما ذكرنا يوم أمس، تتعلق تحديداً بالمباحثات العسكرية المصرية الروسية التي جرت قبيل حرب يونيو 1967م ببضعة أيام معدودة حيث ظلت نتائج تلك المباحثات أشبه بالأسرار والطلاسم، ولم يكشف النقاب بالكامل عن تفاصيلها، والأهم من ذلك انها صُورت من قبل الجانب المصري بأنها تكللت بالنجاح التام، وأنها أسفرت عن إبداء الاتحاد السوفيتي استعداده الكامل لدعم مصر عسكريا وسياسيا في أي حرب تخوضها مع إسرائيل بلا تحفظ أو شروط.
وعلى الرغم من الموقف المبدئي المعروف الذي يقفه الاتحاد السوفيتي الى جانب الأنظمة الوطنية وحركات التحرر الوطنية في العالم الثالث ومساندته لها بمختلف أشكال الدعم والمساندة، فإن ما نقل عن مصادر مصرية عن حصيلة تلك المباحثات التاريخية ونتائجها لم يكن بالصورة الدقيقة بل على الأقل يمكن القول استنادا الى شهادة هذا المستشار الروسي الذي كان حاضرا ومشاركا فيها كانت مضخمة من قبل الجانب المصري الذي وظفها في سياق الحرب الإعلامية الحماسية التي شنتها مصر ضد إسرائيل حينذاك أثناء حشد قواتها في سيناء على طول الحدود مع “إسرائيل”، وغلقها مضايق تيران، وطلبها على الفور سحب قوات الطوارئ الدولية المرابطة هناك منذ عام 1956م غداة انتهاء العدوان الثلاثي على مصر. كما كانت دمشق قد حشدت جيشها على طول الحدود السورية ــ “الإسرائيلية”.
ومن أبرز من شارك في تلك المباحثات عن الجانب السوفيتي كل من نائب وزير الخارجية ف.س سيميونيف، ومدير دائرة الشرق الأوسط أ.د.شيبورن، وقد بدأ الحديث شمس بدران الذي قدم خلفية عن آخر تطورات ومستجدات الأوضاع العسكرية بين مصر وإسرائيل، وطلب باسم القيادة السياسية المصرية، ممثلة في الرئيس عبدالناصر أن يقف الاتحاد السوفيتي الى جانب مصر بتوجيه ضربة عسكرية وقائية ضد اسرائيل قبل ان تبدأ بمهاجمة سوريا التي لن يغفر أحد من العرب لمصر تخليها عنها في هذه الظروف. لكن رئيس الحكومة السوفيتية ورئيس الوفد السوفيتي في تلك المباحثات اليكسي كوسيجن رد بالحرف الواحد: “لا.. فإنكم إذا ما بدأتم الحرب فستعتبرون معتدين، ونحن لا نستطيع دعم المعتدين”. ثم أضاف: إن الولايات المتحدة ستتدخل عسكريا في هذه الحالة الى جانب إسرائيل وستعولون على دخولنا الحرب الى جانبكم ونحن لن نحارب فقد شبعنا حروبا.
ثم عاد وزير الحربية المصري بدران الى موسكو في زيارة ثانية لها قبل أسبوع واحد فقط من الهجوم الإسرائيلي على مصر وسوريا والأردن لإبلاغ القيادة السوفيتية بالتزام القيادة المصرية بألا تكون البادئة بالحرب احتراما وامتثالا لنصيحة الأصدقاء السوفيت، إلا أن إسرائيل شنت هجومها صبيحة الخامس من يونيو 1967م بعد ان انطلت على القاهرة خديعة أمريكية دبلوماسية بأن إسرائيل لن تكون البادئة بالحرب كشف عن خفاياها كل من الصحفي الفرنسي الكبير ايريك رولو في حوار له مع قناة “روسيا اليوم” والصحفي المصري الكبير المعروف محمد حسنين هيكل في سلسلة أحاديثه إلى “الجزيرة” عن النكسة “طلاسم 1967م”.
ولما كانت هزيمة 1967م لمصر وسوريا هي بطبيعة الحال في الوقت ذاته هزيمة لحليف مصر الكبير الاتحاد السوفيتي فإن ما يميز شهادة المستشار الاقتصادي والدبلوماسي السوفيتي الكبير أكوبوف توخيها أكبر قدر ممكن من شجاعة النقد الذاتي لموقف قيادة بلاده من الحرب فهو بقدر ما دافع باعتزاز وبقوة عن سياسات ومواقف بلاده المبدئية المؤيدة والداعمة للعرب ومصر في الصراع العربي – الإسرائيلي وعن عدالة قضية فلسطين كحركة تحرر وطني تكافح من أجل التحرر الوطني فإنه لم يتوان عن الغمز الناقد لخطأ التقديرات والحسابات السوفيتية في تلك الحرب التي أسفرت عن تعزيز النفوذ الأمريكي في المنطقة العربية على نحو غير مسبوق تاريخيا الذي جاء ليس على حساب العرب فحسب بل على حساب النفوذ السوفيتي في المنطقة ذاتها الذي أخذ نحو الانحسار والتضعضع بعد الهزيمة ثم ازداد انحسارا عام 1970م حتى انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991م، حيث أضحت المنطقة بعدئذ بامتياز منطقة نفوذ أمريكي مغلقة عليها وعلى حلفائها فحسب.
يقول اكوبوف في سياق ذلك النقد الشجاع لموقف بلاده من الحرب ان الاتحاد السوفيتي بضغطه على مصر بألا تكون هي البادئة بالحرب، ومنعها من توجيه الضربة الوقائية الى إسرائيل، أتاح للأخيرة ان تقصف مقاتلاتها القوات المصرية في سيناء من ارتفاع منخفض من دون غطاء جوي بعد أن تم تدمير معظم سلاحها الجوي على الأرض.. ويضيف: “لقد عزا الجميع ذلك الى غباء القيادة العسكرية المصرية ولكن الحقيقة هي اننا الذين منعنا عبدالناصر من توجيه ضربة وقائية”. ولم يتردد اكوبوف من ابداء استغرابه من انه بالرغم من هذا الخطأ السوفيتي القاتل فإن عبدالناصر لم يوجه لوما للقيادة السوفيتية بعدئذ لمنعها اياه من توجيه الضربة الوقائية، فلم يقل لهم مثلا: “لولا التزامنا بنصيحتكم لما تعرضت مصر لتلك الهزيمة المذلة”.
لكن يظل السؤال بالرغم من هذا النقد الذاتي الشجاع من قبل اكوبوف لحكومة بلاده، الى أي حد تستطيع الضربة الوقائية المصرية لو تمت ردع اسرائيل عن عدوانها الكبير المبيت المخطط بعناية ضد مصر وسوريا والأردن وبدعم أمريكي لا محدود أو على الأقل التقليل من حجم الهزيمة فيما الجيش المصري كان على ذلك الحال من الفساد وعدم الجاهزية القتالية؟

صحيفة اخبار الخليج
2 اغسطس 2009