المنشور

بين فنزويلا وإيران

لعب النفط دورا وطنيا نضاليا مشتركا في تجربتي فنزويلا وإيران، كبلدين من العالم الثالث راحا يواجهان مخاطر السيطرة الأجنبية ومصاعب التنمية، وتغيير حياتيهما الاجتماعيتين التقليديتين.
فيما تشكلت بيروقراطية حكومية مضادة للديمقراطية في فنزويلا تصاعد نفوذ القوى العسكرية في إيران.
يقول أحد الصحفيين:
“حين تولى شافيز رئاسة فنزويلا عام 1999، كنت متفائلا جدا لأنني كنت من بين الذين شاهدوا عن قرب الانهيار الاقتصادي المأساوي لهذا البلد الغني بالنفط طوال أكثر من عقد من الزمن، وشعرتُ على غرار الكثير من الفنزويليين بأن ثورة شافيز الموعودة هي الشيء الوحيد الذي يستطيع تغيير أحوال هذا البلد. ولكنني اليوم وبعد مرور عشر سنوات بـتُ أقل تفاؤلاً إزاء مستقبل البلاد.
فعلى الرغم من سيطرة شافيز على الأفرع الثلاثة للحكم والأرباح التي تم جنيها خلال الطفرة النفطية من 2003 إلى 2008، فإن سجله ضعيف على نحو لافت، حيث يفوق معدل التضخم 30 في المائة، في وقت تضاعف فيه معدل جرائم القتل منذ أن وصل إلى الرئاسة، وباتت قلة المواد الغذائية أمراً متكرراً. وبموازاة ذلك، فإن الصحفيين يتلقون التهديدات، وعمال حقوق الإنسان يطردون بشكل جماعي. وخلال الأسابيع الأخيرة، استولى المسؤولون الحكوميون على أصول شركات نفطية أجنبية، وهددوا بإغلاق شبكة “جلوبوفيجن” التلفزيونية الإخبارية المحسوبة على المعارضة”،(بريان ولسون، مؤلف كتاب: الانقلاب على شافيز، الصمت والعقرب).
على الرغم من تعبير الصحفي المذكور عن (الاشتراكية) فإن متابعته للرأسمالية الحكومية في فنزويلا هي صائبة، وذلك بسببِ تفردِ الحكومة وعلى رأسها شافيز بالتحكم في الموارد وتضييعها بأشكال شتى.
فتغدو الحريات مرفوضة والتدخل في شؤون الدول الأخرى ومساعدة الدكتاتوريات سياسة مسيطرة، وهو أمرٌ يتناقضُ مع الشعارات المرفوعة.
إن نماذج البرجوازيين الصغار بشعاراتهم “الوطنية” والدينية العنيفة وعلى شكل مفرقعات هي سياسة دولية في مناطق تشهد ضبابا طبقيا كثيفا، وقد خلقتْ هذه الضبابية بعضَ الأنظمة القومية المناضلة ولكنها غير قادرة على الجمع بين التحرر الوطني والديمقراطية، بين البناء الداخلي وتقدير إرادة الشعب، فهذه العملية تتطلب تحولات كبيرة في حياة السكان مع اتساع الحريات، وهذه المجموعات تبدأ بشعارات صحيحة ومناوئة للتدخلات الأجنبية ولكن قدرتها على احترام الحريات وتوجيه الفوائض لتغيير حياة أغلبية السكان محدودة، فقد ظهرت فيها جماعاتٌ مهيمنة على الحكم وأدى فسادها إلى تراجعها عن الديمقراطية، ثم راحت تحكم قبضتها على السلطة وترفع أصواتها الجهادية.
ولابد لذلك من غطاء، تجدهُ في الشعارات المعادية للاستعمار، وإذا كان رفض التبعية مهما ولكن لماذا التعسف ضد الشعب وهو مصدر السلطات والمقاوم الأساسي للهيمنة؟
هذا ما تبرره الفئاتُ التي استولت على النفط في كل من فنزويلا وإيران، وتغدو جذورها العسكرية والبيروقراطية مانعة إياها من اتخاذ مواقف وطنية شعبية ديمقراطية، فتلجأ إلى الصراخ تحجب به حقيقتها.
كان شافيز يبحث عن غطاءات لحجب هذه الحقيقة، وللصرف على دول “المواجهة”، كذلك قام الحرسُ الثوري الإيراني باستخدام هذه اللغة الثورية المنتفخة والفارغة، وأوجدَ دولَ المواجهة الخاصة به، ليس لتحرير الأراضي المحتلة، بل لتبرير مصروفاته الضائعة في الدهاليز البيروقراطية.
ومن المؤكد ان الحرس الثوري متجه للاستيلاء الكامل على السلطة في إيران في الشهور القادمة ووضع المنطقة العربية الخليجية في موقع الخطر الهائل، وهو ما سوف يؤيده شافيز بطبيعة الحال.
وكذلك شافيز لا تهمه مسائل الحرب والسلام في منطقة أمريكا اللاتينية، فحتى الدول التي ترفع شعارات الماركسية تخلت عن عقلية المواجهة الحربية، وركزت في التنمية وجمعت بين القطاعات العامة والخاصة في التغيير الداخلي، وطور بعضها آليات الديمقراطية لمجابهة الفساد.
وكان من الممكن لشافيز أن يصمت خلال مواجهة الشعب الإيراني للتعسف والقمع الحكوميين، لكن كشف نفسه على حقيقتها باعتباره دكتاتوراً متخلفاً أحمق، بدلاً من أن يقدم النصائح للنظام الإيراني للتخلي عن مثل هذه الطريقة القاسية، وأن يمد يده لجراح مئات الأسر الإيرانية التي تعرضت لفقدان أزواجها وشبابها، وظهر بصورة دكتاتوريي أوروبا زمن الفاشية المنتفخي الأوداج بالعبارات الثورية الرهيبة.
وتخلي النظامين عن الفهم الإنساني للدينين السائدين فيهما، يؤكد أن هذين الدينين ينسحبان من تأييد نظامين عسكريين، يقحمان الدينين بشكل حاد ومغاير لمضمونيهما، وهذا ما يتجلى في انضمام الكثيرين من علماء الدينين والمثقفين إلى الديمقراطية وإلى حقوق الإنسان وإلى عدم استخدام هذه الشعارات الميتة في محاربة الاستعمار لقمعِ الشعوب الفقيرة!
إن التضامن بين شعوب القارات الثلاث ضد الهيمنة الأجنبية هو الشعار العظيم الذي سوف يظل مستمرا، لكنه مغاير للتضامن بين الأنظمة العسكرية لقمع شعوب العالم الثالث هذه.
وأن تضيع الثروات النفطية النادرة الاستثنائية للصرف على هذه الفئات الهامشية في مواجهاتها الدونكيشوتية هو شيء مأساوي وساخر في آن معاً.
وفي الوقت نفسه نرفض كذلك استخدام القوة لتغيير هذه الأنظمة التي تعاني شعوبها سطوتها، وعلى شعوبها أن تواصل نضالها.

صحيفة اخبار الخليج
1 اغسطس 2009