المنشور

نفرح أم نبتئس.. ؟!

لا أعرف حقيقة ما اذا كان على المرء أن يفرح أم يبتئس حينما يتابع ما ينشر في شأن أي قضية من قضايا التجاوزات أو ما يتم تداوله حول روائح الفساد التي تزكم الأنوف في بعض مواقع المسؤولية العامة . 
صحيح أن الأمر في الآونة الأخيرة في ضوء تفجر بعض القضايا قد بدا من علامات الصحو واذا شئنا الدقة مؤشر يؤذن بأن ثمة جدية باتت متوفرة للنهوض بحقيّ المساءلة والمحاسبة على الأقل حيال ما ظهر الى العلن حتى الآن من تجاوزات وانحرافات وأخطاء في بعض الأجهزة الرسمية ولاشك أن أي تقدم ملموس على هذا الصعيد سيكون إنجازاً عظيماً لا ريب . 
غير أن الأمر قد لا يبدو كذلك بالضبط ، وأن بدا فبصورة نسبيه لا مطلقة ، لأن المستقر في الوعي واليقين هو أن معركتنا ضد آفة الفساد أكثر كثيراً مما نظن، وأن التصدي لمكامن الخلل والانحراف ومواجهة الذين لم ينهضوا بمسؤولياتهم وواجباتهم في مختلف مواقع العمل والمسؤولية لازال دون الطموح وظل سقف الحساب أدنى من الحدود المعقولة، لذلك كان علينا على الدوام أن نستقبل بارتياح وترحاب وابتهاج أي مسلك طيب، كهذا الذي سلكه مؤخراً أعضاء مجلس أمناء معهد البحرين للتنمية السياسية الذين في موقف يحسب لهم ونراه بأنه يسجل حساً بالواجب وشعوراً بالمسؤولية التي تراعي مبدأ احترام القانون حينما لجأ المجلس إلى النيابة للنظر فيما تكشف له من تجاوزات مالية وادارية محملة على ما يبدو بتفصيلات كثيرة أفاضت صحفنا المحلية في نشر ما أمكن نشره منها، مما فاجأنا وآلمنا في آن واحد خاصة أن ما جرى وهذا اللغط المثار يمس مؤسسة معنية بتعزيز الثقافة السياسية، ونشر وتنمية الوعي السياسي بين المواطنين ودعم التجربة البرلمانية والمجالس البلدية وتبيان دور السلطة التشريعية الرقابي والتشريعي وما الى ذلك من أهداف نبيلة . 
اذا كان علينا أن نستقبل بارتياح وترحاب وابتهاج ذلك المسلك ، فإن علينا في نفس الوقت أن نبدي انزعاجاً وقلقاً ورفضاً لأمرين ، الأول ينطلق من إيماننا العميق بأن المتهم بريء حتى تثبت أدانته ولذلك ليس من اليسير قبول نشر إدانات مسبقة وقاطعة قبل أن يصدر القضاء حكمه ولا يخفى على أي حصيف تبعات ذلك . 
أما الأمر الثاني فهو يتصل بما تناقله أو يتوقعه البعض بأن ثمة مسعى يستهدف محاولــــــة ” لفلفة ” ليس هذه القضية فحسب، بل وكل قضية تتصل بنزاهة العمل العام واذا كان ثمة أطرافاً لديها حساسية مفرطة مما ينشر إزاء تطورات القضية ذات الصلة بالمعهد المذكور والتي تلاحقت ليكتشف الرأي العام بأنها حافلة بالمضاعفات والتموجات والمنزلقات التي ملأت عناوين الصحف مصحوبة بعلامات الاستنكار والتعجب ، فإن هذه الأطراف التي ربما تفعل ذلك من زاوية ” أن الله أمر بالستر .. !! ” ، عليها أن تدرك أنه ليس من الحكمة ولا من المصلحة سواء فيما يخص قضية المعهد أو أي قضية أخرى التدخل لحسابات أو اعتبارات بعينها ، لنخرج في النهاية بحصيلة يمكن أن تختزل تحت عنوان ” أننا كنا ضحايا لبس غير مقصود ” أو غير ذلك من الذرائع التي تبقى الأمور على ما هي عليه ، أو تجعل سقف الحساب لا يتجاوز حدوداً معينة، الأمر الذي لاشك أنه يفتح الباب واسعاً لتأويلات في محلها لعل من بينها ما يشير إلى خلل فادح في منظومة القيم السائدة المعطلة لأي جهد يسعى للتصدي لكل مظاهر الفساد والتجاوزات بالدرجة المطلوبة من الاصرار والحزم لسد منافذ الفساد وملاحقة الضالعين فيه، والمسألة هنا لا تخص قضية معهد التنمية السياسية وإنما تخص موقفنا بشكل عام من الفساد برمته، وماذا فعلنا كي لا تكون محاربتنا له من باب التمنيات ..!! . 
أيضاً يجب أن لا يغيب عن البال بالنسبة لمن يفسر أو يبرر سرعة نشر بعض التفاصيل ذات العلاقة بقضايا فساد وتجاوزات هنا أو هناك ، من زاوية الحرص على احاطة الرأي العام بهذه القضايا باعتبار أن ذلك كفيل بقطع الطريق عن أي محاولـة ” لفلفلة ” هذه القضية أو تلك ، ولكي تأخذ مسارها الطبيعي والمطلوب في التقصي والتحقق ومن ثم المحاسبة ، فإن صح ذلك التفسير أو التبرير فإن ذلك يشكل مفارقة لا تخلو من  سخرية لأن مثل هذا التدخل أو المسعى أن حدث يأتي في وقت نحمل فيه عناوين وشعارات الإصلاح والرؤية الاقتصادية التي تضع محاربة الفساد ضمن أولوياتها. 
لسنا بصدد حالة استثنائية أو فردية، فهناك عشرات من الملفات ، وعشرات من القصص والروايات التي تتعلق بممارسات وقضايا وتجاوزات وفساد أكبر حجماً وأكثر اثارة مما حدث في معهد التنمية السياسية لاتزال تحاصر بالصمت ، وما نحتاجه أن نفعّل كل الآليات التي لا تجعل الفساد يهيمن على أوردة وشرايين مجتمعنا دون رقيب أو حسيب .. نعم قد يغلق ملف هنا ، ولكن هناك الكثير من الملفات التي تستحق التأمل والمراجعة يما يعيد إلى الناس الأمل في الحاضر والمستقبل .
 
صحيفة الايام
1 اغسطس 2009