المنشور

حراك عالمي واسع من أجل الحريات

عبر تغير نمط الدول الاشتراكية الشرقية عن لحظة تطورية كبيرة في العالم، فظهرت مقاربة أكبر مع نمط نموذج الحريات في العالم الغربي، وإدغام دور القطاعات العامة الإنتاجية القيادية في الاقتصاد لتغيير حياة الملايين في عيش أفضل، ولكن ذلك اندمج مع رفض الشموليات والمطالبة بالحريات الواسعة في الحياة العامة والخاصة.
فأصبحت حتى القرى الصغيرة تطالب بتغيير أحوالها وإيصال الخدمات إليها، ووضع حد للتلوث والبطالة والفقر فيها.
ما كان لهذا المناخ أن يغدو شاملاً في العالم وخاصة الدول النامية لولا اهتزاز نمط الدول الشمولية، الدول التي في يدها أغلب شؤون العيش والإعلام والتحكم، فلم يعد من الممكن الركون لدولة كلية بأي شعارات رفعت وطنية أو تقدمية أو قومية أو دينية أو ليبرالية.
إن هذا الحراك الكوني الصاخب لم يكن ممكناً لولا الانهيار في المعسكر(الاشتراكي)، وقد حدث بشكل انهيار لأن القوى فيه قفزت نحو التغيير الشامل وعبر محاولة الجمع بين الدولة الديمقراطية والاشتراكية، لكنها لم تستطع ذلك لغياب التراكم الإصلاحي الديمقراطي الطويل، فانكسرت بين نماذج شتى، جمعَ بعضُها بين الديمقراطية والحكم اليساري، وهو أمرٌ راح يتكررُ في بقاعٍ عالمية أخرى، لجعل الانتقال للديمقراطية يجري ليس على حساب الطبقات الفقيرة، كما يحدث في دول أخرى، توجهت للديمقراطية مع خسارة مكاسب اجتماعية كبيرة فقدتها القوى الشعبية.
كما أن مثل هذه الحكومات الجديدة الجامعة بين الديمقراطية وبرامج اليسار رفضت معزوفة التنمية المجردة، وأن تكون هذه التنمية مجرد حريات فقط للرأسمال، بل أن تجمع كذلك مع التقدم الديمقراطي السياسي، حريات للعمال والفقراء وتبدل نمط عيشهم، وارتفاع أجورهم، وعدم اعتبارهم كبش الفداء في التنمية والتغييرات السياسية!
فالكبار يرون أن الديمقراطية هي الخصخصة وبيع القطاعات العامة بخسارة واستقدام أي عمالة رخيصة وبعضهم يبيع أشياء كثيرة.
لقد أصبح البطش صعباً أكثر فأكثر لكنه لم ينته، ويحدث في الدول التي لم تنتقل للديمقراطية أو إلى عتبات نموذجها ولاتزال الهياكل الشمولية فيها مترسخة، حراكٌ شعبي متواصل، هو جزءٌ من التأثر بما يجري في العالم، فالعالم صار شديد الترابط، متداخل العلاقات والتأثيرات على نحو متسارع، تقوده ديمقراطياتٌ غربية راسخة.
بطبيعة الحال فإن هذا الحراك المتوجه إلى اقتصاد السوق وتفكيك الرأسماليات الحكومية يجري عبر برامج مخلتفة، وتسعى الدول الغربية لاستثماره، لكنه يهيئ المناخ للمطالبات الجماهيرية بالحريات من كل القطاعات في الدول الوطنية، فأصبحت القيود على الاقتصاد والإعلام والثقافة والحريات مرفوضة، وبدأت شعوبٌ عديدة أو مناطق مسيطرٌ عليها ضمنَ دولٍ شمولية تطالب بإستعادةِ الحريات في أديانها ومذاهبها وشعائرها ولغاتها واعتبارها جزءًا من كيان الدول التي تريد بعضاً من الدخول والمشروعات المقتصرة على الحكومات ونخبها.
ويجري بعض ذلك في المناطق المتخلفة والقليلة الوعي السياسي بأشكال دموية وبصدامات عرقية ودينية، تعود بالنتائج السيئة على المحتجين والمطالبين، وتؤدي على العكس إلى تشديد قبضات الدول وتبرير مشروعاتها السياسية التقييدية والعسكرية.
هذا عادة ما يجري في المناطق النائية أو الجبلية أو الريفية فيتخذ طابعاً إرهابياً وقتلاً لأناس أبرياء كالسياح أو ضرباً للاقتصاد وإجراماً اقتصادياً بحق الشركات والاستثمارات، بسبب عدم نضج الوعي السياسي في هذه المناطق، ما تستغلهُ الدوائرُ الحاكمة في جوانب مضادة.
في حين تتمكن قوى أخرى أكثر حصافة في المدن الكبرى من جمع الشعب حولها بطرقٍ سلمية، ونقل مطالبها لعمق المجتمع والسلطة، فتجعل أهدافها قابلة للتنفيذ، وإذا لم تستطع حالياً فإنها تجعل دوائر عديدة شعبية ورسمية تقتنع بوجهات نظرها مستقبلاً، والعالم يسير بسرعة خارقة الآن، وما رفضته الدوائر الرسمية قبل شهور يصبح مطلوباً ويعلو من درسه على أسس موضوعية، ويغدو الجامدون مرفوضين حتى للدوائر الحاكمة.
وعلى المستوى الاجتماعي المحض فإن الجمهور في كل مكان يستعيد حريات أكبر في البحث العلمي والحريات الشخصية، وتنمو قدراته في التحرر من القيود، والقوالب الاجتماعية المحنطة، ويتعامل مع أكثر أجهزة العصر حرية واتصالاً، مؤثراً في محيطه عبر البحث والكتابة فاتسعت قوى الصحافة الشعبية على نحو لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية.
كما أن المناظرات والحوارات وتبادل المعلومات في حالاتِ تدفقٍ لا يتوقف، وهي كلها تسلط الضوء على عقد الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، موجهة الانتقادات لكل القوى السياسية الجامدة، وهكذا بدأت تذوب الثلوج الشمولية في قارات بأسرها وهي فقط خطوات أولى لتنتظم الناس وتتعزز حرياتها وتقدمها وتسهم أكثر في التنمية والقرارات السياسية الكبيرة.
بين أناس تناضل لأبسط الحقوق كمشاهدة أفلام السينما وأناس تناضل لتقرير حكم الأقاليم والميزانيات والحكومات تجرى عمليات الحراك من أجل الحرية، وكل شعب بمستواه وبدرجة تطوره، وبكم التراكم النضالي داخله.

صحيفة اخبار الخليج
25 يوليو 2009