المنشور

غشاوة أيديولوجية

إذا أردت أن تنهي حديثاً مع شخص ما، قُل لمحدثك: «إنك على صواب.. كلامك صحيح، أو.. أنت على حق، وكرر هذه المفردات مرات عدة لكي يقتنع أنه على صواب وأنت المخطئ!».. هذا، أو عليك مواصلة النقاش حتى مطلع الفجر، وبعدها تحمل أعباء الصراخ والمناكفات، والمتشعبات، وما إلى ذلك من «ثقافة تلويث الآذان»، خصوصاً عندما يكون الحوار بين اثنين «مسطولين»، أو مصابين بمرض أنفلونزا «الغشاوة الأيديولوجية المنغلقة على ذاتها»، التي لا تسمع إلا صوتها، ولا ترى الألوان إلا بنظارتها، وقس على ذلك ما شئت، رغم ما يحتويه «قوس قزح» من ألوان، بما فيها «الرمادي» الذي ينبغي القبول به وإن كان على مضض أحياناً.
مناسبة ما جاء أعلاه، ورود تعليقين من أخوين كريمين لم تلدهما أمي، أشكر لهما عناء متابعة «افتتاحية أسبوعية» لملف أسبوعي سياسي مهتم بالشأن العربي والدولي، تصدره «الوقت» في «المشهد السياسي» تحت مسمى «نهاية الأسبوع»، حيث إنني مجرد موظف مكلّف من قبل إدارة التحرير بكتابة هذه الافتتاحية، ضمن مهماتي الصحافية التي أتقاضى منها راتبي الشهري، وهو بالمناسبة المصدر الوحيد لرزقي ولقمة عيش أسرتي، ولا أريد أن أضيف المزيد، لا لـ «إثبات براءة الذمة» لمهنة الصحافة أو لـ «خبثها».
أحد التعليقين وصمني بـ «السذاجة»، ولا قول عندي له غير: «إنه على صواب، وقد أصاب كبد الحقيقة»، رغم أن افتتاحية الأسبوع الماضي لم يدّعِ أحد فيها بالذكاء أو اللعب بـ «البيضة والحجر»، ومع ذلك، يا أخ جعفر «لا ناقة عندي لك أهديها.. ولا مال!»، لهذا الاكتشاف العظيم، أما الأخ الثاني، واسمه «صادق»، اتهمني باتهام خطير، أو كاد، حيث وصمني بـ «المعادي للإسلام»، فاستفز الذاكرة لأتذكر مفزوعاً ما قاله الصحابي الجليل، الجنيد، في حق الحسين بن منصور بن محمي الملقب بالحلاج، حين لقائه: «لقد فتحت في الإسلام ثغرة لا يسدها إلا رأسك»، وذلك فقط، لأنّ الحلاج قال: «أنا الحق»، وفسَّرها بعض الفقهاء، على أنه يدعي الإلوهية، أي كأنه يقول: «أنا الله»، لأن الحق اسم من أسماء الله، ومعناه الثابت الوجود، فكفّره القاضي أبوعمر المالكي في بغداد ونفّذ الخليفة المقتدر بالله حكمه: «قطعت يدا الحلاج ورجلاه ثم قطعت رقبته، وبعد ذلك، أحرقت جثته ورُمي رماده في نهر دجلة».
وهذه البشاعة في طريقة القتل، من وجهة نظري، مازال فقهاء المسلمين مختلفين عليها، فبعضهم مؤيد بشدة، باعتباره من أفضل الأحكام في الإسلام، وآخرون يرون فيه العكس، والسجال قائم منذ القرن الرابع الهجري إلى يومنا هذا.
أيها الأخ صادق، اسمح لي أن أخالفك الرأي هذه المرة لأقول كلمة.. وأمشي، لأنني لا أقوى على أن يقطع أحد، مسلم كان أم بلا دين، إبهامي أو سبابتي اليمنى، حيث أمسك بهما القلم، أو أن يخلع أحد إحدى عينيّ، اللتين أقرأ بهما؛ لأنهما مصدر رزقي الوحيد، فكيف بالذي حصل للحلاج؟ فلا تدعني إلى إشعال «ثورة التوابين»، وهي كما تعرف، وأدرى مني بحكاياتها، وهي أوّل انتفاضة مهمّة بعد مقتل الإمام الحسين وأهل بيته (عليهم السلام) في كربلاء، قام بها الذين خذلوه في واقعة «الطف» الشهيرة، حيث تزعمهم في هذه الثورة، سليمان بن صُر الخزاعي، وهو صحابي جليل كان اسمه «يسار»، ويقال بحسب ما قرأت، سماه رسول الله (ص) سليمان، وهو من أصحاب الإمام علي بن أبي طالب (ع) وشارك معه في حروبه.
وأيضاً أيها الأخ، لا تُزودني بآيات من الذكر الحكيم، فذكر بعضها أحياناً، يتعارض ومصالح متنفذين في المجتمعات الإسلامية وحكام يعتبرون أنفسهم «ظل الله في الأرض» إلى يومنا هذا، وما لا يخفيك، ما أصاب الصحابي أبوذر الغفاري، من أذى تجار قريش، حين ذكر آية من كتاب الله: «والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، فبشرهم بعذاب أليم»، وأعتقد، والله أعلم، «سبيل الله» يُقصد بها عموم الناس الفقراء، وقال قولته الشهيرة: أينهيني خليفة المسلمين، من ذكر آية من كتاب الله؟!.. حيث سجن وعذب ونفي إلى الربذة، وكذا الحال، لا تزودني بخطب ومقولات قالها أمير المؤمنين (ع) الذي يطلق عليه اليساريون: «رمز الفقراء»، كما ينعتون أبا ذر الغفاري بـ «كاهن الاشتراكية الإسلامية»، لأن كتاب الله، «القرآن الكريم» و«نهج البلاغة»، و«كنزا ربا» – الكنز العظيم، الكتاب المقدس عند الصابئة المندائية – وإن شئت «الإنجيل» وكتب ماركس ولينين، وروايات لملحدين ومؤمنين، وأساطير بابل وسومر، وكل ما يتعلق بـ «الفكر الحر»، لا أنام إلا وهذه الكتب بالقرب من وسادتي، تماماً مثلما يضع الحكام الطغاة كتاب «الأمير» لمكيافيللي تحت وسادة نومهم ليبرروا قمع شعوبهم من نصوصه.
 
صحيفة الوقت
24 يوليو 2009