المنشور

الوطن العربي والإنفاق العسكري وغياب الديمقراطية

لقد باتت صفقات الاسلحة وتجارة السلاح في دول العالم الثالث عامة والوطن العربي خاصة تمثلان القاعدة المألوفة للأنظمة الغنية والمتخلفة على حد سواء، وتجسد استراتيجية سياسية تتبناها هذه الانظمة، جاءت على حساب التنظيم الاجتماعي.. مثلما احتلت مسألة الامن القومي المرتبة الاولى بامتياز من اهتمامات الحكومات العربية، اما قضايا المواطن وبناء الانسان واعداد المجتمع وقضايا التنمية، فهي عادة ما تحتل المراتب الاخيرة من الدونية والتهميش.. بقدر ما جاءت صفقات هذه الاسلحة على حساب تدهور الاقتصاد الوطني، ورزوح الدولة تحت طائلة المديونية الطائلة.
وعلى الرغم من ابرام الاتفاقيات الامنية والعسكرية ما بين حكومات اقطار الوطن العربي والدول الرأسمالية، فإن هذه الحكومات قد اكدت دائما وابدا سعيها الحثيث إلى مواصلة عملية ابرام وتوقيع هذه الصفقات الكبيرة من الاسلحة.. ومن المؤسف القول حقا ان المستفيد الوحيد من هذه الصفقات هي الدول الرأسمالية والمصدرة للسلاح، التي تستأثر بنصيب حصة الاسد من المليارات من الدولارات.. ليس هذا فحسب ولكن الاهم من ذلك هو سعي هذه الدول الرأسمالية الى عملية التخلص من اسلحتها المصنعة الزائدة المخزنة والمكدسة في مستودعات السلاح، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الامريكية التي “لاتزال تمثل أكبر مزود للأنظمة العربية بالمعدات العسكرية التي تبلغ مبيعاتها 31% من صادرات العالم” بحسب ما اوردته الدراسة التي اعدها معهد ستوكهولم مؤخرا.
لعل طرح هذه المقدمة هو رغبتنا التطرق الى عقد صفقات الاسلحة الكبيرة والمبرمة ما بين الدول الغنية المستوردة للسلاح والدول الرأسمالية المصدرة لهذا السلاح.. وفي مقدمة هذه الدول المستوردة للسلاح: دولة الامارات العربية المتحدة التي “اصبحت ثالث اكبر مستورد للأسلحة في العالم” حسبما صرح به معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام في شهر ابريل 2009،. كما ان المعهد ذاته قد نشر احصائية مؤخرا حول تجارة السلاح تقول “استوردت الدول الغنية بالنفط نحو 6% من واردات الاسلحة العالمية في الفترة من 2004 الى 2008″، ويسترسل المعهد في دراسة اخرى بالقول “إن ما بين سنتي 1999 و2003 كان ترتيب الامارات المرتبة السادسة عشرة من بين اكبر المستوردين للأسلحة في العالم.. ثم صعدت الامارات الى المرتبة الثالثة”.
إن هذه النسب وهذه الاحصائيات التي اوردها معهد ستوكهولم الدولي حول استيراد وشراء الدول الغنية تلك الاسلحة من خلال الصفقات الكبيرة التي تقدر بمليارات الدولارات وفي مقدمتها الامارات العربية المتحدة، هي صفقات ان دلت على شيء فإنما تدل على اهتمام الانظمة العربية بمسألة الأمن القومي بالدرجة الأولى، وسعي هذه الانظمة في الوقت ذاته الى فصل مسألة الامن القومي عن قضايا التنمية وعن قضايا الديمقراطية والحريات العامة.. ليس هذا فحسب ولكن تأتي عملية هذه الصفقات من الاسلحة، لتشيع المديونية للدولة التي تمثل سمة من سمات تخلف الوطن العربي.. ولكون مسألة الامن القومي قد تجاوزت ميزانيتها موازنة النفقات الاخرى بنسبة كبيرة، كالتعليم والصحة والاسكان والبحث العلمي التي لا تمثل موازناتها سوى نسبة ضئيلة لا تذكر بل بالغة التحقير.
ومثلما طغت مسألة الامن القومي بكفتها الراجحة، على جميع القضايا المجتمعية الملحة.. فإنها (أي مسألة الامن القومي) جاءت على حساب تخلف المؤسسات التعليمية بسمتها التقليدية، والجامدة بمناهجها ومخرجاتها التي لا تنسجم ومتطلبات سوق العمل.. وكذلك بيروقراطية الوسائل الاعلامية وجمود آلياتها واجهزتها وقنواتها، وتهميش مراكز البحوث العلمية، اضف الى ذلك تدني التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والبشرية، وتدهور القاعدة الانتاجية، مقرونة بتهميش الكفاءات من العلماء والمفكرين والباحثين ومصادرة ابسط حقوقهم العلمية والانسانية، وتجاهل المواطن وانتهاك حقوق الانسان لافتقاره الى مبدأ العدالة الاجتماعية من جهة التي محورها ازدياد الفقراء فقرا، وحرمان هذا المواطن من الحرية السياسية التي مرتكزاتها مصادرة حرية الفكر والرأي والمعتقد والتعددية وتكميم الافواه من جهة اخرى.
لعل القول يبقى صحيحا ان ابرام الصفقات الكبيرة لمختلف وشتى الاسلحة ترافقه المديونية الطائلة التي يعانيها الوطن العربي.. تعود حقائقها وتداعياتها الى اسباب سياسية متردية وظروف موضوعية وذاتية بالغة التعقيد.. طالما ثمة التفكير الرسمي الاستبدادي المهيمن والفوقي للنظام القطري بخطابه الانعزالي.. ولكون المفسدين والمتسلقين والانتهازيين لدى النظام يمثلون محورا لتفشي مظاهر البيروقراطية والمحسوبية، واستشراء الفساد بجميع اشكاله، في ظل سوء الحكم والادارة وغياب الديمقراطية والمؤسسات المدنية والدستورية، وغياب مبدأ فصل السلطات الثلاث ومبدأ تداول السلطة.. فتغيب بذلك المساءلة القانونية والدستورية للسلطة التنفيذية وللمتجاوزين والمفسدين.. بقدر هيمنة المتجاوزين والمستبدين والمتلاعبين بالمال العام، وهدر مقدرات الشعب لدى الوطن العربي ودول العالم الثالث على حد سواء.

صحيفة اخبار الخليج
24 يوليو 2009