المنشور

ثورة يوليو بين النكسة والثورة المضادة

على خلاف كل الثورات العربية المعاصرة التي نالت الشعوب العربية بفضلها الاستقلال السياسي التام الناجز غير المنقوص، سواء الذي تحقق بفضل انقلاب عسكري على النظام التبعي السابق قادته مجموعة من الضباط، كمصر والعراق وليبيا، أم الذي تحقق على أيدي قادة الحركة الوطنية ضد المستعمِر (بكسر الميم الثانية) المحتل فإن ثورة يوليو المصرية تتميز بين كل هذه الثورات ليس فقط بكونها قامت في أكبر وأهم قطر عربي وعلى يد زعامة تمتعت بعدئذ بقدرات هائلة في الزعامة الكارزمية الشعبية والقومية، بل بالنظر إلى كون هذه الثورة تميزت باتساع وتجذر تحولاتها الاجتماعية التقدمية وتحقيق قدر ممكن من التوزيع العادل للثروة الوطنية، وذلك في ظل استقرار سياسي وأمني داخلي مديد نسبيا (1952 – 1970) افتقرت إليه دول الانقلابات العسكرية الأخرى التي أطلقت على نفسها “ثورة” أيضا.
وإذا كان أحد العوامل الرئيسية لانتكاسة الثورات العربية الوطنية سواء جاءت بواسطة انقلابات عسكرية أم غيرها هو تزعزع الأوضاع السياسية الداخلية، فلعل من المفارقة التاريخية أن نظام ثورة يوليو الذي كانت القضية الوطنية ممثلة في تحرير مصر من بقايا الوجود العسكري البريطاني أهم إنجازاته ينتهي هذا النظام أو على الأدق تنتهي هويته الوطنية التقدمية بسبب إخفاقه في الدفاع عن أراضي الوطن وتعريضها مجددا لدنس الاحتلال الأجنبي الصهيوني، وذلك كما تمثل في الهزيمة الكارثية الكبرى التي منيت بها مصر في حرب 1967 التي انتهت باحتلال إسرائيل لشبه جزيرة سيناء المصرية كاملة.
فلئن كانت ثورة يوليو بقيادة عبدالناصر تمكنت من تحقيق الاستقلال الوطني الناجز التام عن المستعمر البريطاني فإن استعادة مصر لسيناء لم تتحقق بموجب اتفاق “كامب ديفيد” الإسرائيلي – المصري من دون قيود اسرائيلية مجحفة تحول دون فرض الأولى سيادتها الوطنية الكاملة، ناهيك عن تحييدها في الموقف من الصراع العربي – الاسرائيلي. وهكذا يمكن القول إن آثار عدوان عام 1967 – السياسية تحديدا – ليس لم تتخلص منها مصر تماما فحسب بل استطاع العدوان أيضا أن يوجه ضربة قاصمة إلى ظهر ثورة يوليو أفضت إلى أفول هذه الثورة سريعا وعلى الأخص بعد الرحيل المفاجئ لقائدها جمال عبدالناصر في سبتمبر عام 1970م.
على أن أفول الثورة وانتكاستها بنجاح قوى الثورة المضادة في الانقضاض على مجمل مبادئها بعد وفاة زعيمها لم يكن قدرا محتوما، بقدر ما كان للأخطاء الجسيمة المتراكمة الفادحة دور محوري رئيسي في وقوع كارثة 1967م وفي غروب شمس الثورة معا. ذلك بأن الأخطاء القاتلة التي أدت إلى الهزيمة هي ذاتها الأخطاء القاتلة التي أدت إلى انتهاء الثورة وانقضاض قوى الثورة المضادة اليمينية على السلطة من داخل نظام ثورة يوليو ذاته وبقيادة رموز من رفاق عبدالناصر بل من أقرب المقربين إليه، وعلى رأسهم الرئيس السابق أنور السادات الذي عينه الأول نائبا له قبل أقل من عام واحد من وفاته ليؤول إليه الترشح إلى الرئاسة بهذه الصفة وليفوز بموجب استفتاء شعبي، وليس انتخابا، وكمرشح وحيد في ذلك الاستفتاء وينقلب بعدئذ سريعا على مبادئ ثورة يوليو بزاوية 180 درجة.
وعلى الرغم من مرور 42 عاما على هزيمة يونيو 67 فإن منجم أسرارها الكبير مازال ثريا بمعادن أسراره التي لم يتم التنقيب والكشف إلا عن النزر اليسير منها بالرغم من خطورة هذه الأسرار وأهميتها في استخلاص الدروس والعبر التاريخية لوقوع الهزيمة ولانكسار الثورة في آن واحد.
ومنذ نحو عقد ونيف يجرى تباعا بما يشبه التقسيط الكشف عن بعض تلك الأسرار المطمورة في المنجم المشمع بالشمع الأحمر، إن جاز القول مجازا، وكلما اطلع المرء على شيء منها تجتاحه نوبة عارمة من التعجب والذهول، كيف لثورة بهذا الحجم وتقودها قيادة بهذا الوزن والشعبية الجارفة في مصر وخارجها ممثلة في عبدالناصر تقع في مثل تلك الأخطاء الجسيمة، سواء فيما يتعلق بالأخطاء السياسية المتعلقة بالنظام وعلى الأخص ما يتعلق بالمسألة الديمقراطية واختيار العناصر المخلصة الوطنية الحقة المختبرة والمجربة، أما فيما يتعلق بالاستعدادات التي جرت لحرب عام 1967م التي كشفت الفساد الكبير الذي كان ينخر المؤسسة العسكرية وقياداتها، من دون علم عبدالناصر بحجم ذلك الفساد، حيث لعبت عواطف عبدالناصر نحو رفيقه في مجلس قيادة الثورة وقائد الجيش دورا في بقائه على قيادة الجيش حتى حرب 67، بالرغم من تأكد فشله الذريع خلال حرب 1956م وخلال أحداث الانقلاب على دولة الوحدة بين مصر وسوريا عام 1961م.
ولعل ما تم الكشف عنه هذا العام في ذكرى حرب يونيو وعشية ثورة يوليو التي تحل ذكراها الـ 57 هذا اليوم من أخطر ما كشف عنه حتى الآن من أسرار عن هزيمة 67، وذلك كما رواها ومازال يرويها تباعا الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل في قناة الجزيرة، وكما رواها عدد من الشخصيات السياسية والقيادية السوفيتية إلى قناة “روسيا اليوم”، مثل الكاتب الصحفي قسطنطين كابيتوف، والجنرال نيقولاي ايفليف الملحق العسكري السوفيتي في القاهرة في أوائل السبعينيات، والجنرال محمود غارييف المستشار العسكري السوفيتي في القوات المصرية خلال الفترة نفسها، والجنرال قسطنطين بوبوف أحد الخبراء العسكريين السوفيت الذين شاركوا في حرب الاستنزاف (1967-1970)، وأخيرا بافل اكوبوف المستشار الاقتصادي في السفارة السوفيتية بالقاهرة.
ونأمل بإذن الله أن تسنح لنا الفرصة أن نتناول في الأسابيع القليلة القادمة بالتحليل والتعليق بعض أهم ما جاء في تلك الشهادات المهمة.

صحيفة اخبار الخليج
23 يوليو 2009