المنشور

قبل الإجازة

بعد هذا المقال سأتوقف فترة لن تطول عن كتابة مقالي اليومي، رغبة في التقاط الأنفاس ولو قليلاً، والاستمتاع ببعض الكسل، أو ما يشبهه، مستذكراً في هذا المقام واحداً من أجمل مقالات الفيلسوف برتراند راسل الذي اختار له عنواناً معبراً: “في مدح الكسل”. برأي راسل إن الكسل في البلاد التي لا تستمتع بشمس البحر الأبيض المتوسط الساطعة أكثر مشقة، وأخشى من تعميم هذه الملاحظة النابهة، فنجد فيها نحن في منطقة الخليج ذريعة لممارسة المزيد من الكسل يضاف إلى كسلنا التقليدي، لأن المؤكد أن ذلك لم يرد في ذهن برتراند راسل وهو يكتب هذه العبارة. فهو كان يتحدث عن بلدان أخرى كمية العمل المنجز فيها أكبر مما ينبغي انجازه بكثير، ولا أظن أن بلداننا يمكن أن تصنف ضمن خانة هذه البلدان، خاصة وانه وضع لذلك شرطا يتلخص في انه من الظلم أن يستهلك الإنسان أكثر مما ينتج، وقد يقوم بطبيعة الحال بأداء خدمات بدلا من إنتاج السلع، ولكنه ملزم بتقديم شيء مقابل مأكله ومسكنه. لكن مقالة راسل تندرج في إطار عمل فلسفي عن مجتمع أشبه بالجنة يسوده الفراغ العظيم والعمل القليل. انه يتحدث عن يوتوبيا تتحقق في مجتمعات أنجزت ما هو ضروري كي ينعم أبناؤها بعد ذاك بالكسل، أو يمارسوا كسلهم مستفيدين مما جنته أيديهم من ثمار العمل الدؤوب الذي مارسوه طويلاً وبجد. ما أكثر ما تعنّ علينا متعة ممارسة الكسل، كأن تكون لدينا مهمة يتعين علينا انجازها، ولكننا نؤجلها للغد أو إلى ما بعد الغد، لا بقرار نتخذه عن وعي، وإنما لأننا ننساق انسياقا لذلك، كأن الأمر يصدر عن منطقة ما في العقل الباطن أكثر مما يصدر عن الذهن. وقرأت مرة حديثاً لرياضي مرموق، يصف فيه الحال التي تنتابه عندما يتوقف عن ممارسة الرياضة أياما أو أسابيع لسبب من الأسباب، ثم يقرر العودة إليها ثانية، حيث انه يشعر بثقل هذا القرار، وعزا الأمر في ذلك لما ندعوه باللياقة، فالانقطاع عن الرياضة يفقده اللياقة التي يحتاج بعض الوقت لاستعادتها ثانية، وهو أمر يعرفه الكتّاب أيضا الذين لسبب من الأسباب يتوقفون عن الكتابة، فما أن يعودوا إليها بعد انقطاع حتى ينتابهم شعور بأنهم يجربون الكتابة للمرة الأولى. لكن للأمر علاقة أيضا بما يمكن أن نصفه آلية الكسل، وحين نستخدم هذا التعبير فليس في النية هجاء الكسل أو ذمه أو تقريع من يمارسه، ذلك أن للكسل لذة، وتزداد هذه اللذة حين ينتابك الشعور انك عائد بعد حين لن يطول إلى دوامة سريعة الدوران لن تستطيع أن تقذف بنفسك خارجها متى شئت. نقول عادة : الكسل يجر الكسل، لكن في الحال التي نحن بصددها، فإن ذلك يحدث برغبة في تشرب متعة ممارسة هذا الكسل حد الامتلاء، أو على الأقل إلى الحد الذي تستطيع فيه أن تنال ما يمكن من متعة هذا الكسل. وبعيداً عن كل هذا “التنظير” فإننا نحس بقيمة الأشياء حين نفقدها، وحين يصبح الكسل عزيزا لأننا نفقده، كما أشياء أخرى عزيزة، لا نملك سوى مديحه.
 
صحيفة الايام
23 يوليو 2009