المنشور

لغتا الجمود والتحايل

هما لغتان مختلفتان، إحداهما تحاول أن تصورَ نفسَها بأنها لغة الحاضر والمستقبل، والأخرى تصورُ نفسَها بأنها لغة الماضي والحاضر والمستقبل.
فاللغة الأخيرة لغة الثبات والأجداد والدين والحكم الذي لا يرى التغيير إلا في أضيق نطاق، وهو يمثل المصالح التقليدية المتكلسة عبر الزمان، يأتي لاحقٌ ليواصل السابقَ، ويجيءُ الخلفُ ليؤكد السلفَ، بمعانٍ كثيرةٍ لكنها تعني كلها الكرسي الأبدي في مجال الدنيا والدين.
أما لغة الحرباء فهي كثيرة متنوعة مضطربة لا تستقر على كرسي، لأنها تهدفُ للكرسي الذي لا يجيء، ومتوهمة دائماً انه سيجيء، وإذا لم يجئ فهي تكتفي ببركات وخيرات الكراسي القوية الثابتة على مر الزمان النحس والبغيض.
الإقطاع، والرأسماليات الحكومية، التي توزع الخيرات، وتوزع اللعنات، حسبما يكون سلوك الرعية، لا تستطيع تكتلاتُ الحرباءِ المتعددة الهموم والسموم أن ترفضها كلياً، ولا أن تعتاشَ عليها كلياً، فهي فئاتٌ متوسطة صغيرة ساخنة في هذا العصر الذي يضغط عليها من كل اتجاه، فتجد أن ترمومتر الحقيقة النقية يكمن في المصلحة، والشموليات الشرقية تعطي هوامش صغيرة لحراكها كأنها فئران في أنابيب زجاجية مغفلة.
(علي أن أرى أين تكمنُ مصالحي)، (كفاية تضحية من أجل الغير، ولكن إذا كانت مصلحتي تتفق مع مصلحة الغير فليكن)، (لقد سقطت الأدلجة وانتصرت المصالح).
وهذه اللغة المصلحية الخاصة المتداخلة مع الهموم العامة بهذا المستوى أو ذاك، تشكلُ لغاتٍ سياسية محدودة الحفر في الواقع. إنها لا تقدر على أن تناضلَ من أجل الحقيقة، أن تكشف قوانينَ كلِ بناءٍ اقتصادي والجماعات التي تتشكلُ فيه، بل هي تنتقي مانشيتات ساخنة أو هادئة أو باردة حسب طبيعة كل جماعة.
المتماثلون الكليون مع الجمود حزبان لا ثالث لهما، حزب إيجابي وحزب سلبي، الإيجابي يؤيد الصخرة في كل صلابتها التاريخية وصمودها الأسطوري، والسلبي يرفض الصخرة ويريد بناء صخرة أخرى مكانها ليتمتع بنفس الصلابة والامتيازات المطلقة.
في التضاد هنا تماثلٌ كذلك، لأن مادة الصخور واحدة، والإقطاع والرأسماليات الحكومية المتمتعة بالفوائض الاقتصادية هي ذاتها في كل الدول الشرقية، لكن حسب الأديان والطوائف، وسواءً كان هذا الدين أو ذاك، أو كانت هذه الايديولوجيا قومية أو يسارية أو ربع ليبرالية، فإن قوانينَ الاستغلال هي نفسها، لكنها تتمايز حسب ألوان الشعوب ومدى عبوديتها.
لغاتُ الحرباء تتداخلُ بين كلِ هذه الصخور وتلتفُ حولها وتتغلغلُ بينها، عاجزة أن تكون من مادة الصخور، مهما أراقت من ماءِ وجهها ودمائها، لأن مادة الحرباء هشة، غير ذات صلابة، سرعان ما تهربُ من المعارك وتطلبُ السلامة والغنيمة.
تتوجه حرباءٌ ما إلى الهجوم على صخرة واحدة ملقية على رأسها كل المشاكل والهموم والكوارث، رافضة أن تكون هذه السلبيات مشتركة بين الصخور، بل هي تقوم بالرقص الإيقاعي مادحة صخرة أخرى، تحتوي السلبيات نفسها.
(صخرتنا أفضل، فهي مدافعة عن الحق الأبدي، وهي معادية لقوى الاستكبار، فبالضرورة يكون حزبنا أفضل وهو الممثل للدين).
وقد تتحول الصخرة إلى ثعابين كذلك، من دون أن تذوب صلابتها.
لا أحد يعرف في الشرق أين هي الصخرة وأين هي الحية؟
عالم في حالة سيولة من دون أن تخرج الصخور من الخزائن ومن الأملاك ومن رفاهيتها الخاصة.
الصخرة قد تظهر في حالة سيولة كاملة فهي الخير والحق والعدل والضمير وهي الوطن وهي التضحية وهي الشباب وهي النبل، لكن حاول أن تقبض على شيء من ذلك، فترى الصخرة تتبخر!
والحرباء هي كل شيء ولا شيء.
مجموعات من العيارة، مجموعات من الإيمان، مجموعات من الفضيلة، والنضال من أجل العقيدة والوطن، ثم أسربة في المراحل القادمة، وتراب ينضم للصخور القاسية، وتصير أشد صلابة من الصخور، فهي طارئة عليها وليست من مادتها.
لها ألوان خلابة في عهود الشكوك والتداخل، كلما قربت قرصاً من نار وأحست بلسعة غيرت الموقع.
لم تخرج قوى التقليد أو الحداثة عن هذه المعاني، فلا التقليد قادر على أن يتزحزح ويقدم تغييراً، ولا الحداثة المتهافتة أو المصطنعة قادرة على أن تطور التقليد.
هل تتخلى القوى الحديثة عن التحايل وهي معيار التاريخ وتقدمه، لا تستطيع ذلك لأن كيانات الفئات الوسطى عالة على غيرها، وليست لها في الأرض الموضوعية أقدام وطيئة.
وليس في السياسة فقط بل في الإنتاج الفكري وفي الإنتاج الثقافي، فهل تستطيع أن تذوب صخور القيود والتقاليد المتخلفة وأن تتوجه لحرث الأرض ونقدها وتشكيل زراعة جديدة؟
ماذا فعلت أكداس الكتابات الحديثة النقدية تجاه النقد القديم؟
لم تقم إلا في الإنتاج العميق الاستثنائي بعمليات نقد موضوعية، ولم تهتم بشخوص المكتوب عنهم، بل بالقضية المطروحة، لهذا يصير الإنتاج الفكري هنا حيلة فقط للعيش.
ولهذا ينفتح المجال لكتابات التعقيد الغامضة والتلاعبات الذهنية والحيل والتحايل على المؤسسات والجمهور، ثم يتكشف ذلك عن خواء ويعود الفرسان إلى الاسطبلات القديمة.
القوى التقليدية باقية في أمكنتها، حاول الشعر الجديد أن يصوغ عالماً أدبياً مختلفاً، ثم عادت القصيدة التقليدية والأشعار العامية العتيقة، وانتصرت الصخرة على الحرباء.
في السياسة تطرح الدول والتنظيمات أطروحات تحديثية في شكلها الخارجي من عالم التجديد لكنها من عالم التقليد والحرباء، فتعود بعد سنين إلى أن تكشف طبيعتها الصخرية.
المنطقة العربية الإسلامية تدور في حلقة مفرغة غير قادرة على أن تتجاوز نفسها، بسبب أن القوتين السائدتين من طبيعة التخلف.

صحيفة اخبار الخليج
22 يوليو 2009