المنشور

من يتلقف شكوى حسن مدن؟

عن المجتمع المدني «الجديد» كتب الدكتور حسن مدن الأسبوع الماضي. وتساءل في ما إذا كان من الممكن إطلاق صفة “المجتمع المدني” على مجموعات تأسست خلال السنوات الماضية وانتشرت كالفطر في دول عربية عدة، بما فيها البحرين وبعض دول الخليج الاخرى. كثير من هذه المنظمات والجمعيات (وبعضنا يعرف أصل وفصل البعض منها) تلتحف برداء المجتمع المدني لكنها تتنفس هواءً غير مدني بالتأكيد. فالأكسجين الذي يمدها بالحياة يقتل «المدني» الذي يفترض بها أن تمثله أو تدافع عنه. تساؤلات الدكتور لم تنح منحى اتهاميا، بما عرف عنه من هدوء دبلوماسي وكياسة كاتب لا ينزع نحو السجال غالبا. لكنه أضاء على أية حال زاوية معتمة. وظاهرة ملتبسة. اختلط فيها علينا الأبيض بالأسود. فباتت الجمعيات والنوادي تراوح في المنطقة الرمادية. بلا نكهة أو رائحة. ومن دون هوية. ليس هذا الكلام تعميما بالتأكيد. فعلى الأرجح أن هناك مؤسسات مخلصة لرسالة المجتمع المدني. لكن تلك المنظمات هي التي تعمل بصمت. وتسهم في إزالة معاناة الكثيرين من المعوزين والمقهورين في أرجاء المنطقة العربية. كما أن هناك مؤسسات اشتهرت في المنطقة باستقلاليتها. وفرضا احترامها. واحترام من تمثل. مثل نادي القضاة المصري الشهير. لكن هناك فقرة تثير الانتباه في مقالة الدكتور حسن، وهي التي تشير إلى انتقال «الحزبيين» من خانة السياسة والمعارضة إلى خانة «الناشطين في المجتمع المدني» من دون أن لهم القدرة، في ما يبدو، على إنقاذ الحياة الحزبية أو إثراء المجتمع المدني. يقول: «نجد الكثير من الحزبيين الخائبين الذين هجروا تنظيماتهم تحولوا بقدرة قادر إلى خانة جديدة، حيث يروق لهم أن يوصفوا، تبعاً لمواقعهم الراهنة، بالناشطين في المجتمع المدني، فيضمنون بذلك مجد البقاء في دائرة الضوء والتزاحم على حضور الفعاليات والمؤتمرات التي لا يمر شهر من دونها في هذه العاصمة أو تلك، لكن (من دون) أن يتعين عليهم دفع الضريبة الباهظة التي يسببها العمل السياسي النضالي». كمخضرم في العمل الحزبي، وكسياسي في زمن الإصلاح، يصبح الدكتور حسن «شاهدا من أهلها» في قضية حساسة وحرجة تخص منظمات عقد الكثيرون عليها الآمال في التغيير المأمول. ويعلق الجرس للتحذير وضرورة المساءلة (الذاتية) حول ما وصلت إليه حال تلك المنظمات. لا أحد يشكك في «ذكاء» الحكومات وقدرتها على تحويل «الهزيمة» إلى نصر. وقدرتها على كسب «ولاء» جمعيات أهلية يفترض بها مراقبة أداء الحكومات ومحاسبة صناع القرار وانتزاع حقوق البسطاء من فم الهوامير. لكن المثير سقوط عدد هائل من تلك المنظمات في حضن الحكومات. وصارت رأس حربة في الدفاع عن الفساد والترهل الإداري. بعضها تورط في محاربة مؤسسات المجتمع المدني الأخرى، عبر اتهامات «العمالة» والتخوين. قضية الدكتور سعد الدين ابراهيم لا تزال حاضرة في الذاكرة. وكذلك القضايا التي تورطت فيها بعض جمعيات حقوق الإنسان في دول خليجية دافعت عن الظلم المحيق مثلا بالعمالة الأجنبية. وثارت ثائرتها حين نشرت منظمات حقوقية دولية تقارير عن سوء معاملة الخدم في بعض دول الخليج. أو عن التمنع عن دفع رواتب العمالة غير الماهرة. أو احتجاز جواز السفر. كذلك انحرفت بعض تلك المؤسسات عن نظامها الداخلي لتصبح مرآة للأنظمة التي تنتقدها. فتجد المسؤولين فيها متربعين على «الكرسي». وتأتي نتائج الانتخابات بالتزكية. أو يحرم البعض (من مناوئي الرئيس) من حق التصويت لأسباب «فنية». أو يصبح بعض مسؤولي الجمعية كتبة تقارير لمؤسسات الأمن الرسمية. إن السنوات العشر الماضية كافية لتقييم عمل الكثير من هذه المؤسسات. وربما الحكم على المبدأ الذي يحكم عمل الغالبية العظمى منها. لكن الدكتور حسن في مقالته تلك (13 يوليو 2009) يتوقف عند حد النقد. ولا يشرح كيف يمكن الحد من التشوه الذي طال عمل مؤسسات المجتمع المدني. يشكو من أن «ذلك ليس بالمجتمع المدني الذي نريد». لكنه لا يقارب ما يمكن عمله لتصحيح الوضع المزري لبعض هذه المؤسسات. ربما ذلك ليس مطلوبا منه على كل حال. حسنا فعل بإضاءته تلك. ويبقى على المتصدين للعمل «الأهلي» مناقشة ذلك الوضع وتشريحه. وتقييمه. فليس كل تلك المؤسسات فشلت في رسالتها. فيها ما يبعث الأمل. وفيها ما يمكن اعتباره نوذجا مثاليا لما يمكن عمله بإمكانات محدودة. لكن التقييم مطلوب. ولا بأس أن تكون البداية في البحرين. وهي من الدول العريقة في الخليج في احتضان وتشجيع العمل الأهلي. وتمتلك من المقومات ما يجعلها رائدة في «الحركة التصحيحية» المطلوبة في قطاع مؤسسات المجتمع المدني. وتتمتع بحريات تمكنها من النقد والتقييم ما يتعذر القيام به في دول عربية وخليجية أخرى. فمن يطلق صافرة البداية..؟ ومن يتسلم الراية..؟ حرام أن تضيع جهود مخلصين أسسوا لعمل مدني متفان. والأشد حرمة أن نرى تلك المؤسسات تتحول «مزارع» جديدة لمتنفذين، فلا نستطيع اعتراضا.
 
صحيفة الايام
21 يوليو 2009