المنشور

أكلة الكتف

أكلة الكتف كثيرون، لكن ليس كلهم يعرفون من أين تؤكل الكتف. كلنا نعرف هذا التعبير الطريف الشائع حين يدور الحديث عن “الشطار” والنصابين والدجالين والمبخرين والملمعين، أصحاب القرص في كل عرس. وكنت أتساءل في كل مرة أسمع فيها هذا التعبير: لماذا الكتف بالذات؟!، ألأن لحم الكتف مثلا ألذ وأشهى من لحم الأجزاء الأخرى في الذبيحة. أليس فخذ هذه الذبيحة مثلا أكثر امتلاء بالشحم واللحم؟! إلى أن عرفت أن العرب أطلقت هذا التعبير لأن أكل الكتف فن ما بعده فن، أي أن الأمر ليس على طريقة “خذوه فغلوه”، وإنما يتطلب مهارة خاصة يعرفها المهرة والمدربون جيدا الذين صقلتهم التجارب فباتوا خبراء في طريقة أكل الكتف. وحسب قواميس اللغة فان بعضهم قال: “تؤكل الكتف من أسفلها، أما من أعلاها فيشق أكلها عليك، وذلك لأن المرقة تجري بين لحم الكتف والعظم، فإذا أخذتها من أعلى انصبت عليك المرقة، وإذا أخذتها من أسفل انقشرت عن عظمها وبقيت المرقة ثابتة مكانها”، ويضرب المثل للرجل الداهية، وبالطبع للمرأة الداهية أيضاً، الذي يأتي، أو التي تأتي، الأمور من مأتاها. ولكن ليس كل من سيتبعون نصيحة اللغويين في طريقة أكل الكتف، أي من أسفلها، كي لا تندلق المرقة على أيديهم أو ملابسهم سيتعلمون أن يأتوا الأمور من حيث يجب أن تؤتى، لأن هؤلاء العارفين بكيف تؤتى الأمور من مأتاها ليس من صفاتهم أن يكونوا الأفضل أو الأكفأ أو الأذكى أو الأكثر خبرة، إنهم معدن من البشر تصادفهم أينما وليت شطرك، يتلونون كالحرباء التي تغير لونها في خطة دفاعية محكمة تبعا للون المحيط السائد التي هي فيه، فتصبح كما لو كانت جزءا من هذا المحيط فلا يعود بوسع الخصم أن يراها وينقض عليها. وليس مطلوبا من الحرباء أن تكف عن كونها حرباء، وبالتالي فإنها لا يمكن أن تتخلى عن خطة دفاعها عن نفسها المعطاة لها بالفطرة، لكن هؤلاء الذين استعاروا من الحرباء أبرز سماتها هم أولئك “ذوو الست عشرة ملة” كما وصفهم الشاعر أحمد فؤاد نجم في إحدى قصائده المغناة من قبل المرحوم الشيخ إمام، والذين يصلحون لكل العهود ويتنقلون بين الصفوف كالأرانب في منتهى الخفة وسرعة العَدو، ويتكلمون الكلام المطلوب في كل زمن بلغة عربية فصيحة، ويناورون ويراوغون بالأسماء والأفعال والإشارات وعبارات التورية والمجاز والطباق والسجع. ينشط هؤلاء عند المنعطفات، في فواصل المسافات والمراحل حين تكون الأمور على ما يشبه المفترق، ويتبارون في إبداء المهارات والمواهب، ويظهرون أكثر ما يظهرون إنهم أذكى من أن يدلقوا المرقة على أيديهم أو ملابسهم التي يجب أن تظل مهندمة وأنيقة لزوم ما يلزم. كلما رأيتم هؤلاء عليكم أن تتحسسوا أكتافكم بعد أن يذهبوا كي تتأكدوا أنها مازالت في مكانها، وألا تكون قد أكلت من الأسفل، أي من حيث يجب أن تؤتى الكتف.
 
صحيفة الايام
21 يوليو 2009