المنشور

«الثعلب العجوز» وأزمة هندوراس

لم تتخذ الولايات المتحدة موقفا متشددا ولو على المستوى السياسي في أزمة هندوراس ، بموقفها المختلف عن سائر أعضاء منظمة التكامل لدول أمريكا ، فحاولت أن تتصرف بمعزل عن بقية الأعضاء كونها تشعر إنها دولة عظمى أولا ، ولرغبتها أن تترك لسياستها المختلفة موقفا في الأزمة بعيدا عن رؤية الاتحاد الأوروبي الذي سحب رؤساؤه من هناك فورا كموقف رافض لحكومة الطغمة الانقلابية العسكرية التي انتهكت الشرعية الدستورية بالقوة والسلاح . كان لقاء أخير قبل الدعوة للازمة والبحث عن حلها سلميا بين زلايا ووزيرة الخارجية الأمريكية هيرالاي كلينتون ، والتي نصحت الرئيس المخلوع بالتروي والابتعاد عن العنف وتجنب سفك الدماء ، حيث أصبحت الحكومة المؤقتة في البلاد حكومة «الأمر الواقع» وهي نغمة تبعث في جوهرها على اتجاه تفاوضي والخروج بمساومة مجهولة ! وبحضور الولايات المتحدة كوسيط للازمة ، حيث سيلتقي الطرفان يوم الخميس مساء في كوستاريكا ، البلد الذي لا تمتلك بلاده جيشا ، والمعروف فيه شعار البلاد «بحياة نقية» pure life لهذا تم اختيار بيت الرئيس الكوستاريكي اوسكار أرياس والملقب «بالثعلب العجوز» كون كوستاريكا بلدا محايدا في محيط جيو ـ سياسي كله يتضامن مع زلايا بقوة . هذا اللقاء وجها لوجه ليلة الخميس بين خصمين متشددين ، سيجعل من مهمات الوسيط الكوستاريكي والأمريكي صعبة في هذا اللقاء كما أشار الثعلب العجوز بان الاختلافات كثيرة بين الطرفين ولن يتم حلها مساء الخميس ـ تاريخ اللقاء ـ وإنما الاجتماع سوف يساهم بجعل عملية التفاوض مستمرة والقبول بإجماع على التحاور والتفاوض سياسيا، ولكنه سيخلق مناخا تفاوضيا بين تلك الاختلافات بحيث تحل بشكل سلمي، إذ يصر زلايا على قيام انتخابات مبكرة (الانتخابات الاعتيادية للرئاسة تقام في نوفمبر عام 2010) فيما يشدد روبرتو ميغاليتي في موقفه بأن زلايا عليه تسليم نفسه للحكومة المؤقتة لمحاكمته بجرائم قانونية اقترفها فترة حكمه. ومن المعروف إن الرئيس الكوستاريكي والبالغ من العمر 68 والذكي في كل عمليات التفاوض التي قام بها خلال العقدين المنصرمين لدول أمريكا الوسطى «المشحونة بالعنف والاقتتال» ونتيجة جهوده حصل على جائزة نوبل للسلام لما قام به من أعمال في تلك المنطقة الملتهبة. في سان خوسيه عاصمة كوستاريكا «تتجه أنظار القارة لتلك التجربة الجديدة من زمن العولمة والحريات ورفض نزع الشرعية عسكريا . ستكون عملية التفاوض أكثر معقدة فلدى كل الأطراف حججها السياسية» ولكن يبقى ضعف الانقلابيين هو ان العالم وقّع على ميثاق دولي رفض كل أشكال العمليات اللادستورية والاتجاه للانقلابات العسكرية! ولا يتوقع خبراء القارة الجنوبية أن تستفيد أي وساطة لحل الأزمة وهي ليست مهمات سهلة للرئيس الكوستاريكي. في الواقع هناك مشكلة جوهرية في الشارع السياسي الهندوراسي «فيما لو تراجع زيلايا في قبول ضغط ميغاليتي» أن يمنع الجماهير في شتى البلاد من مواجهة الانقلابيين بطريقتهم المنظمة «إذ لن تتمكن الحكومة المؤقتة تحويل البلاد إلى حمامات دم وساحة طوارئ، فزمن تشيلي والرئيس الليندي انتهى بانتهاء القطبية. ويعرف المنتفضون في الشوارع ذلك المأزق الذي يصّعب من قدرة ميغاليتي مواصلة تطوير البلاد الفقيرة والضعيفة في ظل حصار تجاري ومالي وعزل سياسي شبه دولي بعد ذلك التصويت الكامل لصالح زيلايا كرئيس شرعي تم نفيه ببيجامته لكوستاريكا. لقد تحولت الأحياء إلى شبه حكومات محلية، تدير شؤونها الداخلية بعد أن وجدنا كيف تم افتتاح محطات الراديو والتلفاز وجمع التبرعات في الأحياء وكتابة اليافطات وإغلاق الشوارع ليلا ووجود طبخ وطعام عام وصناديق للتبرع ورفع العصي والمناجل الفلاحية وإنتاج البارود، بل وخروج السلاح من مكمنه لبلد عرف شعبها الحرب الأهلية الشعبية في الغابات والمدن، وأنهك كل الحكومات العسكرية المتلاحقة ، فلم تنجح في خنق أو إزالة تلك القوة الشعبية المنظمة سياسيا . ما فعله الأطباء والممرضون أنهم التحقوا إلى صفوف شعبهم، مثلما تحولت الأغنية السياسية والهتافات الثورية إلى قوة دفع في البلاد، وكأنها عاصفة سياسية لن تهدأ إلا برجوع الرئيس، فالهند وراسيون تعلموا من مرارة الحرب ومرارة العسكر طويلا ولا يفضلون العودة لتلك الحياة مرة أخرى في ظل فقر مدقع وأزمات عديدة بدأت عملية تحسينها في سنوات حكم زيلايا القصيرة . من سيفرض قوته على الأرض سيفرض شروطه السياسية عند التفاوض، وهذا ما يرتكز عليه زيلايا فقوة الشبيبة والنساء والفلاحين والنقابات العمالية والمدرسين يعيدون خلق جبهاتهم التنظيمية من جديد، فليست تلك القوى الملثمة بالمنديل الأحمر إلا تلك التعبيرات القديمة لقوة اليسار والشيوعيين في هذه المنطقة. ما يؤسف له إن الإعلام العربي لا يضعك في الصورة الحقيقية للمشهد السياسي والأمكنة الشعبية والتظاهرات الضخمة، التي تقام في المناطق والأزقة ، التي تحولت إلى محيط من النار، وإنما تتركز عدسات تلك القنوات في لقطات مقطوعة ومشوهة، فيما تعرض المحطات العالمية صور مختلفة عن الواقع الداخلي. ما تختزنه القوة المعارضة في هندوراس اكبر من قدرة الثعلب العجوز والمتحاورين زيلايا ـ ميغاليتي في تمرير رغباتهما بطريقتهما في التسوية ـ فيما لو تراجع زيلايا عن موقفه وخان الدعم الشعبي والذي تقود احد أطرافه الظاهرية زوجة الرئيس ـ والتي تركز وسائل الإعلام عليها في الوقت الحالي. هندوراس المحاذية حدودها للسلفادور شرقا وغواتيمالا شمالا ونيغاراغوا جنوبا والمفتوحة، وتطل على كوبا عبر مياه البحر الكاريبي، مما يجعل مهمات العسكر صعبة في إيقاف وصول السلاح من دول الجوار في حالة نزاع عنيف. وهناك خوف من انتقال الحريق إلى جنوب المكسيك المتوتر سياسيا والمستعد لخوض تجارب ولمرة أخرى في معارضة السلطات المركزية. ومن أغوار تلك الغابات الكثيفة ستجد القوة المعارضة نفسها تتجه فيما لو نضبت الوظائف الاحتجاجية عن إنهاء المشكلة، وإلا فان الحديد وحده يفل الحديد. وعلينا الانتظار قليلا لكي نرى كيف تتم عملية التفاوض داخل القصر والحراك في الشارع المنفلت والغاضب إذ القوى الموجودة في الساحة ليست من صنع الرئيس زيلايا الغني بمزارعه الكبيرة وإنما من تاريخ مزدحم بالثورات والعنف والتنظيم السياسي المعقد.
 
صحيفة الايام
21 يوليو 2009