المنشور

حركة «عدم الانحياز» قابلة للفعل

إننا نعيش في عالم متغير حقاً. في الأسبوع الماضي تحدثنا عن قمة مجموعة «الثمانية الكبار» التي تمثل بعض بلدانها ما سُمّي «المليار الذهبي» المدلل من سكان العالم. والمليار الذهبي هو نظرية المحافظين الجدد التي تعتمد أحقية هذا المليار (أساساً أميركا، أوروبا الغربية، واليابان) بالحق في العيش والإنتاج والاستهلاك على حساب المليارات الخمسة الأخرى من بقية شعوب العالم. وقلنا إن هذه المجموعة تتمتع بنصيب نصف الصادرات العالمية وأكثر من نصف الإنتاج الصناعي العالمي. وعلى مدى قرون، ظلت بلدان تلك المجموعة تقود الاقتصاد العالمي وتحدد طبيعة تقسيم العمل الدولي وطريقة الانتفاع من مردوده بين دول وشعوب العالم. وفي العقود الأخيرة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بدا وكأن الولايات المتحدة الأميركية هي القطب الأوحد الذي يقرر مصير ويسيّر كل بقية العالم، بما فيها دول المليار الذهبي. غير أن حال العالم آخذ في التغير. فلم تعد مجموعة الثمانية الكبار كذلك، ولم تعد أميركا القطب الأوحد، وهما الآن يخليان مكانهما في الزعامة العالمية. ترى من ذا الذي سيملأ الفراغ الذي يخلفانه؟ أهي مجموعة الدول العشرين التي نشأت حديثاً والتي تحدثنا عنها في أكثر من مقال؟ أم مجموعة «زة» التي تحدثنا عن قمتها الأولى قبل أسبوعين؟ أم هي مجموعة دول حركة عدم الانحياز التي أنهت قبل أيام (15 يوليو/تموز) أعمال قمتها الخامسة عشرة في شرم الشيخ، والتي نحن بصددها في هذا المقال؟ وهل هذه الحركة لاتزال موجودة؟ وإذا كانت كذلك فما حظها في البقاء والاستمرار، وما دورها؟
وقبل أن نصل إلى قناعة معينة لنسبر على السريع بعضاً من غور هذه الحركة التي تأسست من قبل 29 دولة حضرت مؤتمر باندونج العام 1955 بمبادرة من الزعماء المصري جمال عبدالناصر، اليوغسلافي جوزيف بروز تيتو، الإندونيسي أحمد سوكارنو والهندي جواهر لال نهرو. والأخير هو الذي أطلق مصطلح «عدم الانحياز» قاصداً به الدول التي كانت ترفض الانضمام إلى المعاهدات السياسية والأحلاف العسكرية وتنهج نهجاً ثابتاً من أجل دعم وتوطيد السلام العالمي. استلهمت الحركة مضامين حركات التحرر الوطني في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية وانعكست في برنامجها الساعي إلى تحقيق استقلال الدول المستعمرة وإقامة نظام اقتصادي عالمي جديد وعادل والقضاء على أسباب الحروب وخصوصاً الأسلحة النووية واحترام حقوق الإنسان ومقاومة كل أشكال التمييز العنصري وحماية البيئة والتعايش السلمي وتقوية دور فاعلية الأمم المتحدة ومقاومة الإمبريالية والاستعمار، والاستعمار الجديد. الهدف الأخير أضفى على الحركة طابع ما سمي «الحياد الإيجابي»، وحدا ببعض الكتّاب لنعتها بحركة «عدم الانحياز نحو الإمبريالية». وقد فسرت هذا التوجه مقولة الزعيم عبدالناصر الشهيرة إن الحياد بين الحق والباطل يعني انحيازاً للباطل. ومنذ نشأتها شهدت الحركة بعض التغير في طبيعتها، إلا أن الأهداف الرئيسة لاتزال ماثلة على جدول أعمالها.
نشأت الحركة كأحد نتائج الحرب العالمية الثانية وظهور سياسة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، بين معسكري الرأسمالية والاشتراكية العالميين. وقد احتفلت الحركة قبل أربعة أعوام في مدينة باندونج الإندونيسية نفسها بالذكرى اليوبيلية الخمسين لتأسيسها. وقد انعقد مؤتمر باندونج في 18 – 42 أبريل/نيسان 1955 ليس تحت اسم حركة عدم الانحياز، بل «حركة التضامن الآسيوي الإفريقي». وفي الوقت ذاته تأسست تحت هذا الاسم منظمة تضامن الشعوب الإفريقية الآسيوية التي لايزال مقرها طيلة هذه العقود قابعاً في شارع الملك عبدالعزيز آل سعود في المنيل بالقاهرة. وفي 18 مايو/أيار من هذا العام عقدت هذه المنظمة على طريق التحضير للقمة الـ 15 لحركة عدم الانحياز ندوة علمية بشأن «الأزمة المالية العالمية وأثرها على دول عدم الانحياز – تعاون جنوب – جنوب». وكان لمحدثكم شرف المساهمة فيها بورقة بعنوان «جذور الأزمة الاقتصادية في بلدان الخليج. أثرها والبرنامج المضاد للأزمة». لم تكن هذه الندوة الوحيدة من نوعها. فلقد جرت تحضيرات نشطة مختلفة سواء في القارات الثلاث المسماة «3» (آسيا، إفريقيا وأميركا اللاتينية) أو في بلدان أخرى من العالم على طريق القمة الـ .15
إن ما تشهده حركة عدم الانحياز من دفق في أنشطتها في عقد السنوات الأخير يبدد كل التصورات القائلة إن الحركة قد استنفدت دورها التاريخي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء حقبة «الحرب الباردة». ففي خطابه الختامي للقمة الأخيرة التي انعقدت تحت شعار «التضامن الدولي من أجلئالسلام والتنمية» في ظل مشاركة نحو 55 رئيساً وملكاً، بينهم ثمانية رؤساء عرب، إلى جانب عدد كبير من رؤساء الحكومات، قال الرئيس المصري محمد حسني مبارك الذي تسلم رئاسة الحركة من نظيره الرئيس الكوبي كاسترو إن القمة تعد «برهاناً جديداً على حيوية الحركة وتأكيداً على أهمية هذا التجمع الضخم لأكثر من نصف دول العالم». وقد أقرت القمة ست وثائق، هي الوثيقة الختامية، إعلان شرم الشيخ، إعلان بشأنئاعتبار 18 يوليو/تموز يوماً عالمياً للرئيس الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا (حيث يبلغ 91 عاماً)، إعلان بشأن فلسطين، إعلان عن خطط العمل وإعلان بشأن الأزمة المالية.
عكست القمة نصرة غالبية شعوب العالم لقضية الشعب الفلسطيني العادلة وحقه في إقامة دولته الفلسطينية المستقلة المتصلة والقابلة للبقاء بعاصمتها القدس الشرقية، والتوصل إلى حل عادل ومتفق عليه للاجئي فلسطين على أساس القرار 194 «وإلى السلام العادل والشامل في الشرق الأوسط على أساس قرارات مجلسئالأمن ذات الصلة، ومبدأ الأرض مقابل السلام، ومبادرة السلام العربية». وأدانوا جميع الأنشطة الاستيطانية الإسرائيلية. وفي الشأن النووي أكد إعلان القمة أن دولها ستتخذ «تدابير ملموسة» لتنفيذ تعهد الدول النووية بإزالة ترسانتها وإنشاء مناطق خالية من الأسلحة النووية، خصوصاً في الشرق الأوسط، على أساس «تكافؤ الأمن المطلق للجميع». وقد عكس القادة إرادة شعوبهم التي عبّرت عنها الرئيسة الفلبينية بضرورة أن تتحدث الحركة بصوت واحد قوي من أجل إيجاد حلول للتحديات التي يواجهها العالم في كثير من المجالات، مؤكدة الحاجة الماسة للجهود الدولية لتحقيق الديمقراطية والإنصاف والعدالة في إطار نظامئعالمي جديد. مع تغيراته الجوهرية فلا يبدو أن العالم يلفظ حركة عدم الانحياز، بل يحتاجها بروابط ومضامين جديدة تستجيب لتحديات الواقع الراهن أمام شعوب المليارات الخمسة لتنهض إلى صف «المليار الذهبي».
 
صحيفة الوقت
20 يوليو 2009