المنشور

حبور

مثل هذا لن يقع ينصحنا فريدريك نيتشه بالتالي: عندما نقرأ لكاتبٍ يتسم أسلوبه بالاقتضاب الخاطف وبالهدوء والنضج بأن نتوقف أمامه ملياً، بأن نقيم عيدا طويلا وسط الصحراء، ذلك أن حبورا مماثلا لهذا الذي يبعثه هذا الكاتب في نفوسنا لن يقع لفترة طويلة. هذه النصيحة تصح على كل كاتب مفكر مثله. العودة إليه لا تبعث على الملل، وفي كل مرة نعود إليه ونقرأ ذلك الإيجاز والتكثيف المدهش الأشبه بالحكم أو الأقوال المأثورة نُصاب بذلك الاهتزاز الناجم عن ضربات فوق رؤوسنا كما كان هو نفسه قد وصف الكتابات المتميزة التي تصيبنا بالدوران، أو تلك التي تحطم الجليد المتجمد دواخلنا بفأس كما كان كافكا قد قال مرة. د. محمد عضيمة فعل ما فعله كثيرون غيره من المترجمين العرب، فاختار مقتطفات من أقوال نيتشه تنطبق عليها الأوصاف أعلاه وجمعها بين دفتي كتاب وضع له العنوان التالي:” ما وراء الخير والشر”، متعمداً الانطلاق من المقولتين الفلسفيتين اللتين استحوذتا على ذهن هذا الفيلسوف الباعث على الفضول والإرباك. عند كل جملة أو عبارة أو فقرة في “المختارات” التي جمعها المترجم يمكن الوقوف طويلاً، وإقامة عيد وسط الصحراء، ذلك أن حبورا كهذا الذي تثيره في نفوسنا لن يتكرر كثيرا وقريبا. فلكل كلمة يقولها رائحتها، هناك انسجام وتنافر بين الروائح، ومثلها يوجد بين الكلمات. لذا فان نيتشه يتعهد بأنه لن يقرأ لأي كاتب أراد تأليف كتاب، بل سيقرأ فقط لأولئك الذين تجلت أفكارهم فجأة على شكل كتاب، وهو يقدم ما يشبه الموعظة لمن يدعوهم “الكتاب الشباب” الذين يجهلون أن التعبير الجيد والفكرة الجيدة لا يعطيان نتيجة جيدة إلا داخل إطار ما يشبههما، ويجهلون أيضا أن استشهادا ممتازا يمكن أن يلغي صفحات بكاملها، لا بل قد يلغي الكتاب بأكمله، منبهاً القارئ، كأنما يتوجه إليه صارخاً: انتبه إنني حجر الأساس، وكل ما يحيط بي خروق باهتة وخسيسة. يمكن لعبارة ما مأخوذة بشكل منفرد أن تكون جيدة، قوية، لأنه ربما تكون قد وجدت وحدها سياقا عندما انهمرت على الكاتب أولى اشراقات الفكر. والفكرة العميقة التي تقال بسطحية تكف عن أن تكون عميقة وهي تصل للقارئ، لأنك إذا تصحح الأسلوب فإنما تقوم أساسا بتصحيح الفكرة .
 
صحيفة الايام
18 يوليو 2009