المنشور

هل تستعيد المدينة القيادة؟

خلال عهد الجمهورية في إيران تطورت المدن الكبرى تطوراً كبيراً، فيلاحظ نمو الصناعات وزيادة كبيرة لعدد السكان فيها، كما تضاعف عدد السكان بعد “الثورة”، فحدثَ ضبطٌ للمواليد وصارت الأجيال الشابة هي الأكثر.
“تبدو إيران الحالية بلدا شابا فالذين لا تزيد أعمارهم على 24 سنة أي أولئك الذين لم يعرفوا الثورة، يمثلون أكثر من مجموع نصف السكان، وعلى أساس هذا النمو السكاني فضلا عن واقع الهجرة من الريف إلى الحضر، ظهرت المراكز الحضرية والمدن الكبرى منذ عام 1979، ولذلك فالعاصمة طهران على سبيل المثال ارتفع عدد سكانها من 5،4 ملايين نسمة في عام 1975 إلى ما يفوق 7 ملايين إنسان في 2006، أما مدينة مشهد كبرى مدن الشرق الإيراني فلقد ارتفع عدد سكانها خلال ذات الفترة من 670 ألفا إلى حدود 4،2 مليون وهي حالة مدينة أصفهان الواقعة إلى الجنوب من طهران التي ارتفع عدد سكانها من 661 ألفاً إلى أكثر من 6،1 مليون مقابل مدينة تبريز الواقعة في محافظة أذربيجان الإيرانية التي قفز سكانها من 426 ألفا إلى 2،1 مليون.”، (جريدة القبس، 28 يونيو، 2009، مقال: إيران اختلالات اقتصادية واجتماعية).
إن تزايد عدد السكان في المدن الكبرى خاصة، وتعليم الفتيات وتراجع الأمية وتوسع الصناعة في الريف وتنامي الثقافة والاتصال بالعالم الخارجي، هذا كله يؤدي إلى توسع الفئات الوسطى والعمالية وعودة المدن لاستعادة توجيه الحياة الاجتماعية كما كان الأمر فيما سبق هذا العهد، والأزمة السياسية الراهنة تعكس هذا الصراع غير المحلول. أي أن التطورات الحديثة الرأسمالية تعزز دور المدن سياسيا واجتماعيا، وبالتالي يتوجه السكان نحو الحريات بشكل واسع، مع احتفاظهم بالجمهورية الدينية كذلك.
إن طبيعة الاقتصاد الصناعي خدماتية ولم تصل إلى توسع الصناعة الثقيلة:
“يبدو الاقتصاد الإيراني حاليا قائما بالأساس على القطاع الخدمي الذي يمثل نحو 5،49 في المائة من الناتج المحلي الخام، ومع ذلك فإن قطاع النفط الذي يمثل نسبة 84 في المائة من الصادرات و47 في المائة من عوائد الموازنة، لايزال هو المحرك الرئيسي للاقتصاد، فضلا عن أن الصناعة البتروكيماوية في إيران ترتكز على محافظتي خوزستان وبوشهر، حيث تقع معظم حقول النفط والغاز والصناعة الملحقة”، (السابق).
إن الاقتصاد الخدمي يغدو هامشيا على مستوى الرقعة الجغرافية عبر تركزه في المحافظة السابقة الذكر، وفي نشوء الصناعات الاستهلاكية الكثيرة في المدن، وهي التي تتوجه للتصدير والاستخدام المحلي، مما يعبر عن تنامي الفئات الوسطى إنتاجاً واستهلاكاً.
لقد عجز النظام عن جعل السكان يعيشون في النصوصية الدينية التقليدية، بمحرماتها الحادة، وفي الطابق السفلي من الحياة تــُلغى هذه المحرمات، خاصة مع تنامي هذه الفئات الوسطى في المدن، التي يعبر عنها ويقودها شمال طهران، الذي صار منطقة الأزمة، أو منطقة قيادة الحداثة المتحرك وغير القادر على الحسم كذلك.
كما أن القوى التحديثية الدينية محدودة، ولم تقدر على إنتاج وعي ديني تحديثي واسع، وتكفلت بذلك الثقافة الغربية المستوردة، فتغلغلت الليبرالية الاجتماعية مع انتماء ديني عام غير مؤيد للنصوصية الجامدة.
والنصوصية الجامدة لاتزال في مواقعها قوية في الريف ومنها يأتي الحرس الثوري والباسيج خاصة.
“وتنقل الصحيفة عن موقع “روز” الاصلاحي مقابلة مع احد الاشخاص الذين جلبتهم الحكومة من الارياف والمناطق النائية للقيام بمهمة قمع المظاهرات في طهران وتنقل الصحيفة عنه قوله “ان الحكومة تدفع لي مبلغ مليوني ريال (زهاء 200 دولار) للمشاركة في الهجوم على المتظاهرين بالهراوات”، ويضيف الموقع نقلا عن الشخص الذي رفض الكشف عن اسمه: ان العديد من الاشخاص جلبتهم الحكومة من المناطق الريفية النائية ويقيمون في اماكن خاصة في الاحياء الشرقية من العاصمة”، (إذاعة لندن).
لهذا فإن الإصلاحية الدينية الليبرالية تشق طريقها بين جملة من التناقضات، فهي إصلاحية فكرية سياسية مركزة في أحياء في مدن، خاصة الأحياء التي تتجمع فيها الفئاتُ الوسطى الغنية عموماً، فتطرح قضايا سياسية وثقافية غير متعلقة بإعادة تقسيم الثروة أو إنصاف الأغلبية العاملة، وبهذا فإنها تسلك مسلكا صراعيا داخل قنوات النظام، وهي تبدو صامدة في هذا الصراع السياسي الفوقي، لتكريس مجتمع ديني رسمي وحر كذلك.
إن سلوكها متناقض، بين القمة الغنية المسيطرة التي تعيش فيها، وبين الشعب المقيد، الفقير، الذي تحاول أن توجهه في طريق الليبرالية من خلال الدين والحياة الحديثة، محاولة إدخال بعض الشعارات الدينية الجديدة، ويساعدها على ذلك بعضُ الأقطاب الدينيين الكبار وخاصة السيد حسين منتظري، من أجل التخفيف من نظام ولاية الفقيه ليكون نظام ولاية الشعب، الذي لم تجرؤ حتى الآن على الدعوة إليه، لكون هذا يقطع العلاقة مع النظام، وربما يلقيها تماماً من كونها شريحة تشارك في الطبقة المسيطرة على النظام.
السيد حسين منتظري يقترب بأفكاره من هذا المستوى، لكن عامة شيوخ الدين يعيشون في النصوصية الدينية، وهي مرادفة للمجتمع ما قبل الصناعي، والمجتمع الصناعي غير مكتمل ومشوه البناء في إيران والعالم الإسلامي عموماً.
لهذا فإن أزمة القيادة السياسية الفكرية تتلاقى مع أزمة الاقتصاد المتردد بين الثورة الصناعية وبين الصناعة الاستهلاكية غير القادرة على تغيير المجتمع بشكل واسع وشامل.
تغدو الأزمة كذلك أزمة بين القوى العليا وأزمة غياب قيادة تحديثية متجذرة، فتحاول أن تحلها على مستوى المؤسسات العليا.

صحيفة اخبار الخليج
17 يوليو 2009