المنشور

الواقع الاجتماعي وتجارب الأوطان


حين تحدث كراهية من قبل المواطنين المفترضين لبلدهم يكون ثمة انشراخ عميق.

حين تتمتع جماعة أو جهة وتبقى الأكثرية في عالم الفقر والصمت.

تتحمل الشعوبُ الفقرَ طويلاً لكنها لا تتحمل المهانة والدونية.

حين يحصل الأجانب والضيوف والعابرون والمحتفى بهم والقادمون على كل مكانة لا تؤهلها لهم صفاتهم.

ليس الجوع والفقر والنقود ما يحرك الناس بل الكرامة.

حين يرى المواطن جهة ما في البلد تتمتع طارئة أو غريبة تنشرخ الجروح.

حين يرى الشمالي يكوّن الوحدة بالمدافع ثم يحتكر الموارد. كانت الوحدة عملا تطوعيا بمبادرة الشعب لكن القوى الاستغلالية في الشمال اعتبرتها غنيمة حرب.

الفلوس العابرة والإغراءات وحين تصير البلدان قاعات ترانزيت.

حين تصير الأوطان مجرد علم وعملة ورقية ونشيد وطني غير محفوظ ويبدو غريباً وهو يغنى في التلفزيون.

عندما تقوم جهة ما بتحديد المواطن على كيفها، ويبقى “المواطن” محل استصغار دائم.

الشعوب لا تتحرك لأنه ينقصها الخبز والبسكويت بل لأنها مهانة في عقر دارها.

حين لا تدري الحكومة المركزية أنها مركزية بل انها كلية.

صوروا دائماً الناس العاديين على أنهم غوغاء، والغريب أن تقوم الغوغاء بالدفاع عن القيم والكرامة الوطنية في وقت يتحول مثقفون فيه إلى بشر بلا كرامة.

أي حرقةٍ حين نرى الجمهورَ الذي يركبُ الباصات يقوم بحرقها وهي التي توصلهُ إلى أحيائه البعيدة ومدنه وقراه؟

أي حرقة حين نرى الصينيين يخربون ما بنوه قبل بضعة أشهر؟

حين يشعلُ الناسُ النارَ في مصابيحهم التي تعطيهم النور والمستشفيات التي تعالجهم يكون اليأس قد وصل إلى العمق. إنهم لا يحرقون الباصات بل يحرقون قلوب الناس وذاكرتهم الوطنية وأحلامهم.

كيف تنشأ الغوغاء؟

حين تموت العقولُ شيئاً فشيئاً، حين يُوضعُ بدلَ الضمائر قطعٌ معدنية وحصالات. حين يظهر سياسيون من كل الألوان يستغلونها. حين تتداخل الكلمات بين الجريمة والنضال، بين المصيبة والحقيقة.

حين يتحول الجمهورُ الإنساني الطيب إلى غير مبال بأولاد الحي، وبالجسور، وبطرق بلده، وأزقته، حين يتحول كل شيء إلى “أعمال”، حين يتحول المحامي إلى لص، والشاعر إلى تاجر.

هل رأيت أحداً يتغنى بالوطن من دون أن ينتظر مكسبا ماديا؟

ربما أعظم الأعمال خطراً وأسوأ الصفات حين يكره الإنسانُ وطنـَه.

رغم التربية الطويلة والأناشيد في المدارس والخطب والدعاية في الجرائد لم يحبْ هذا الإنسانُ بلادَه.

يركب الباص فيمزق جلده، يذهب للمدرسة مشاغباً، يعمل في المكتب والمصنع و”يزوغ” ويسرق وينام.

يولد في “مجتمع” يكرسُ حقدَهُ ولا مبالاته وجهله ثم يطلقه سياسيا كارها للوطن الذي لم يعد وطناً بل صار ساحة شغب وانتقام.

تشكل الإرهابي أو المنفصل أو الكاره للوطن في عالم من الكراهية والأحقاد، في غابة معتمة، في أفكار تحل الدم والحرق والنسف.

في عالم من اللامبالاة بالإنسان، بالفرد، بهذا الكائن العشوائي الذي يتوالد.

لماذا لم يستطع “المجتمع” أن يكسب هذا الصبي مشعل النار في الباص لصف الوطن؟

الأستاذ غير معني بالوطن، ربما لأنه قادم من الخارج، ربما لأنه خارجي في الداخل، ربما لأنه غريب في الوطن، ربما لأنه ينتظر الراتب فقط آخر الشهر.

الأم لا تدري ما هو الوطن، وطنها هو الأسعار التي تتصاعد كل يوم، وسجن المطبخ، ومجلات الموضة، وفضائيات التفاهة ومسلسلات الإسفاف، وطنها هو البيت وخارجه معاد للوطن.

الأم تحمل وتلد ثم تسلم الأبناء للشارع يتصرف فيهم كيفما تشاء لحظته السياسية العمياء.

كم من الجرائد اسمها الوطن، وقد امتاز العرب باستخدام هذه الكلمة لحد التخمة لكن هل يوجد الوطن داخلها؟

أين ذهبت الأغاني والأناشيد التي تتغنى بالوطن وترددت كل يوم على مسامع الطفل حتى تحول في النهاية إلى قناص وحارق للبنايات ومشعل للنيران في قطاره؟

“وطني وصباي وأحلامي”، “وطني لو شغلتُ بالخلدِ عنه .. نازعتني إليه في الخلدِ نفسي”، “لبيك يا علمَ العروبة كلنا نفدي الحمى، لبيكَ واجعلْ من جماجمِنا لعزك سلما)، لكن الصبي يصطدمُ بغياب الوطن في المدرسة والشارع ومهما يكتب لكي يحصل على عمل فهو على قائمة الانتظار، لينضم إلى طوابير التعساء، والإداري لديه وطن الصفقات والعمولات والخطط غير المنطبقة على الواقع الخارجي، الذي لا يراه، والتاجر وطنه الرصيد، أما جذور هذا الرصيد والأشجار التي تبكي دماً، والحارات التي تموت واقفة، فهذا ليس من شأنه.

والغريب أن هناك بلداناً شديدة الفقر كثيرة الصراعات لكن حب الوطن تجده في الحارة والقصر، في مقهى المثقفين، وكتابات الأدباء، وفوضى الشعراء، ومواويل الفلاح، حتى في الغربة حين يهاجر الآلاف طلباً للرزق، لكنهم يحملون حب الوطن في أعماقهم، وكلما تذكروه بكوا.

لعل هذه من خصائص الفلاحين.
وفي أوطان أخرى حتى لو صارت أغنية فإن كراهية الوطن منتشرة، المثقف لا يعرفُ شيئاً اسمه البلد، والسياسي يصرخ فيذهب للجحيم هذا البلد، وتغدو الهجرة مطلباً غالياً، والبحث عن مكان آخر منقذ من الوطن حلماً غالياً.

ولعل هذه من خصائص البدو الذين يغدو الوطن بالنسبة إليهم خيمة ومرعى وخزانة محمولة على ظهورهم.
كان الوطن قيمة مقدسة في الطفولة وزمن الرومانسية وفي التربية العسكرية الموحدة والمدارس الفقيرة حيث يرتفع علم العروبة الغنائي، ثم صار مصيدة ولعنة وغيابا.

ماذا يمكن أن يقول المهاجرون العراقيون وهم بالملايين عن بلاد الرافدين بلد الغازات السامة فيما بعد؟

ماذا يقول الإيرانيون وغيرهم وغيرهم؟

والسؤال الأهم: من عليه الدور لينسف وطنه؟



أخبار الخليج 14 يوليو 2009