المنشور

العلاقات الدولية.. والحريات الصحفية


لعل من نافلة القول ان من ابرز مظاهر الدول الديمقراطية العريقة التي قطعت شوطا طويلا في بناء مؤسساتها الدستورية وفي الممارسة الديمقراطية هو الفصل بين السلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية فصلا حقيقيا يكفل استقلالية كل سلطة على حدة عن الأخرى ويمنع تدخل اي منها في شئون الأخرى او الضغط عليها او التدخل في شئونها واختصاصاتها.
ومن ابرز مظاهر ترسخ وعراقة الممارسة الديمقراطية في الدول الديمقراطية صون وحماية الحريات العامة وفي مقدمتها حرية التعبير وحرية الصحافة.
ونظرا للدور الكبير الفائق الأهمية الذي تلعبه الصحافة في الرقابة والنقد وكشف بواطن الخلل والفساد في الدولة والمجتمع على السواء من خلال ما تتمتع به من حصانة وحماية كمنابر عامة لممارسة حق حرية التعبير عن القضايا العامة أطلق عليها البعض مجازا “السلطة الرابعة”، فيما أطلق عليها اشقاؤنا المصريون في الوسط الصحفي تعبير “صاحبة الجلالة” كنوع من التوقير لمكانتها المقدسة التي ينبغي ان تحفظ وتصان من قبل الجميع مجتمعا وحكومة ومؤسسات مجتمع مدني.
لكن هذا الوضع الذي تتمتع وتتبوأ به الصحافة الغربية الديمقراطية لا وجود له في عالمنا العربي وان بدرجات متفاوتة فيما بينها، فلطالما تمت ممارسة اشد الرقابات تعسفا على حرية التعبير في هذه الصحافة، ولطالما تعرضت للمصادرة او إلغاء الترخيص والإغلاق، ولطالما تعرض رؤساء تحريرها ومحرروها وكتابها للتوبيخ او الجر الى المحاكم والعقوبات التي اقلها الغرامات وأكثرها السجن.
لكن تخطئ الدول التي تواجه صحافتها مثل تلك الممارسات، ان هي اعتقدت ان الأمر يلحق ضررا بصحافتها فقط، بل يلحق الضرر آنيا او على المدى البعيد بالدول نفسها وذلك ليس من حيث تعرض سمعتها الدولية للاهتزاز والتنديد فحسب، لا بل لما يمثله هذا النهج من اشكالية وتأثير في امنها القومي، ناهيك عن تشويش مواقفها وسياساتها الخارجية الواضحة المستقرة والمحددة، فالدول التي تعطي انطباعا خارجيا للعالم بأن صحافتها غير مستقلة وتحت سيطرتها او موجهة من قبلها فان عليها الاستعداد لتقبل اي مواقف احتجاجية لا حصر لها من قبل دول عديدة هي اما صديقة لها وتربطها بها علاقات حميمة، واما ذات وزن ونفوذ كبيرين في الاقليم الجغرافي الواحد الذي تتشارك معها فيه فتؤخذ تلك الآراء الصحفية بأنها تمثل الموقف الرسمي للحكومة حتى لو كان الامر على خلاف الواقع، فتضطر هذه بدورها الى ممارسة ضغوطها المعتادة على الصحيفة المعنية، أو “تأديبها” بالتوقيف.
على العكس من ذلك فإن الدول الديمقراطية المعروفة بعراقة حرياتها الصحفية فإن صحافتها تمارس حريتها باستقلالية كاملة مصون وبمعزل تام عن ضغوط او تدخل اي سلطة من السلطات الثلاث ولاسيما التنفيذية، سواء فيما يتعلق بآراء ومواقف صحفها تجاه القضايا الداخلية ام تجاه القضايا الخارجية.
واستنادا إلى هذه الاستقلالية الكاملة المترسخة فإن اي دولة لا تستطيع اعتبار اي موقف او اي رأي لأي صحيفة في دولة من الدول التي تتمتع صحفها بالحرية الصحفية أنه موقف او رأي الدولة ذاتها، كما لا تستطيع اي دولة في العالم اجبار تلك الدولة على تأديب الصحيفة التي ابدت مواقف او آراء اثارت حنق وغضب تلك الدولة المحتجة. وكم عانت حكومات دول عربية عديدة ومن العالم الثالث حملات اعلامية وصحفية غربية على سياساتها الداخلية رأتها مغرضة ومتجنية وابدت شكواها لحكومات تلك الدول الغربية لوضع حد لتلك الحملات او المواقف او الآراء تجاه احداث داخلية عاصفة او قضايا داخلية حساسة لكن مساعيها المحمومة باءت بالفشل الذريع لأنها لم تدرك ان الصحافة في تلك الدول الديمقراطية تتمتع بحرية واستقلالية تامتين، وان حكوماتها ما ان تحاول او تفكر في ممارسة اي ضغط من نوعه او حتى “نصيحة” او “عتب” على اي صحيفة من صحفها تجاه موقف ما فانها تبدأ بحفر نهايتها وتقع في فضيحة مدوية.
ولعلنا نتذكر جيدا في هذا الصدد كم عانت حكومة البحرين مواقف وآراء الصحف الغربية وعلى الأخص البريطانية ووسائل الاعلام البريطانية عموما فيما اعتبرته الاولى تشويها لحقائق احداث تسعينيات القرن الماضي، ولم تجد كل مساعيها لدى الحكومة البريطانية نفعا لوضع حد لكل تلك المواقف والآراء سواء الدقيقة منها ام غير الدقيقة والمضخمة.
على النقيض من ذلك فان الشكاوى المتبادلة بين الدول العربية والعالمثالثية التي تربطها علاقات حميمة وتتماثل او تتشابه في الهامش الضيق لحريات صحفها وغياب الفصل الكامل بين السلطات عادة ما تتكلل مساعيها بتطييب الخواطر وتأديب الصحيفة التي أساءت “أدبها” للدولة الصديقة او الدولة الكبرى ذات النفوذ الإقليمي المتسلط داخل المنطقة الواحدة.
وصفوة القول ان وضعا كهذا لا يربك ثوابت السياسة الخارجية للدولة العربية او العالمثالثية المعنية فحسب، بسبب تصويرها صحافتها، بقصد او من دون قصد، بأنها تحت سيطرة حكومتها وناطقة باسمها، بل يعرض سمعتها الاصلاحية الديمقراطية امام المجتمع الدولي للاهتزاز او التشويه، ناهيك عن تنديدات واحتجاجات المنظمات الصحفية والحقوقية الدولية في حالة توقيف اي صحيفة.
وليس من حل جذري لهذه الاشكالية المربكة للدولة التي لا ذنب لها فيها، سوى تكريس حرية الصحافة واستقلاليتها بما يعزز مصداقيتها امام المجتمع الدولي في هذا التكريس ويفرض احترام كل دول العالم لسلطة صحافتها المستقلة عن سلطة الدولة ومواقفها، كما هو الحال في الدول الديمقراطية الغربية.
أخبار الخليج 14 يوليو 2009