المنشور

حجب المواقع والاتصالات


غدت الحركات الاجتماعية والسياسية والفكرية أكبر من قماقم الدول.
لقد أعطت الحقبة الليبرالية العالمية الجديدة، وسواء كانت متطرفة أو معتدلة، مساحات كبيرة للحرية التي اخترقت الجدران والأسوار والمفاهيم والعقول الضيقة والهوامش المعبأة بحراس الحدود.
يصحو حراسُ المخافر والمحميات الزراعية والخرافية والتعصبية على عالم مختلف، توهموا في البداية أنه لصالحهم ثم فجأة تغير الحال فأخذوا ينشطون جهودهم ويوسعون قيودهم لصد السيول المتدفقة ليس من السلاح بل من المعلومات والصور.
إنها هذه الكائنات الرقيقة المكونة من الحروف وهذه الأشعة اللطيفة غير الحارقة للجلود. 
 
بعد زمنِ إغلاق الفضائيات وحصارها والإلزام بالفضائيات الحكومية وتغييب “الأطباق المشوهة للنظر والجمال”، أو الأطباق الناقلة لكل ما هو ماجن وغير أخلاقي، سقطتْ الأسوارُ وتدفقتْ الصورُ من الفضاء العالي بحريات غير مسبوقة، لم تشكلها الأنظمة بل شكلها التطور التقني الهائل، الذي صنعهُ العلماءُ والفنيون قوادُ العالم الراهن المتوجون.
صيحاتُ المحافظين ضد الأطباق غير الطائرة هذه وضد الشبكات السحرية تحت المياه والأرض والجمود، سببها ان السماءَ الحرة تكسر شتى القيود وتطلق الحريات كافة، وتحاكمُ كلَ شيء، وتعرضُ كلَ شيء، وتعطي معلومات عن كل شيء، وتنقل الأحداث أولا بأول، ولا تعترف بأنظمة دكتاتورية أو مستقلة أو ديمقراطية أو دينية أو علمانية، إنها فوق الجميع.
لقد سقطتْ سلطاتُ الممنوعاتِ التي كانت هي حجر الزاوية لعالم قديم راح يتآكلُ ثم يزول الضباب بعد سطوع الشموس.
تكمن القوة في غرب حداثي متطور وكونه قد تخطى الشرق المتخلف بقرون، فسيطر عبر أدوات متطورة وعبر علاقات اجتماعية متطورة، وهو لا يخشى الحقائق ولا الفضائح ولا الاتهامات ولا سقوط البرلمانات ولا الوزارات.
لا وزير فوق القانون ولا نظام خارج التساؤل ولا دين فوق التحليل، ولا علاقات جنسية محظورة.
في حين أن الشرقَ يعيشُ في عالم الأسرار، والعقد، وهو مرعوبٌ من كل شيء، والميزانيات شكلية، والأحزاب ورقية، والدولُ أسرٌ وجماعاتٌ متنفذة، والثقافة ورقية، والجنسُ يكمنُ في الظلمات، والسياسة غيبٌ آخر.
صدامٌ بين عالمين متناقضين متفاوتي التطور، الأول كل شيء فيه مباح ومرئي ومُنتقد، والثاني فيه كل شيء مغلق وممنوع ومجهول وخارج التساؤل والنقد.
قامت المواقعُ والفضائياتُ والإنترنت بالجمع بين النار والثلج، وبين الحقائق والأشباح، وما تقمعه الأنظمة في الشوارع يتم تسجيله بوسائل الاتصال، وما تخفيه الأنظمة الكهلة تتم عولمته بأيدي الشباب والصغار.
أنظمة من القرون الوسطى وأنظمة في قمم العصر الحديث والرأسمالية الكونية.
أناسٌ لاتزال تتحكم في الحياة والمجتمع بالبخور والتمائم والرشوة والواسطة وحزب الطائفة وحزب العائلة وحزب العصابة.
وأناسٌ تسلطُ الصحافة الحرة كشافات ساطعة حتى على حصالاتهم الصغيرة في البيوت وعلاقاتهم المشبوهة.
بطبيعة الحال لابد أن تكثر القيود والممنوعات والإغلاقات والمحظورات في عالم خائف من الحقائق مرعوب من الثقافة والنقد والتساؤل.
ولابد بالمقابل أن تكثر في العالم الآخر كيفية اختراق المحظورات والدخول إلى الكهوف وتعرية المجهول والنفاذ إلى المحظور.
ولهذا فإن أصحاب الذكاء الخارق في وزارات الإعلام والثقافة وقوى التدين الشكلاني يتعبون أنفسهم ويضيعون الميزانيات في هدر لا معنى له وفي نهج تجاوزه التاريخ والعصر.
سبقهم آباء الكنائس وحاملو المسدسات الجوبلزية الذين كلما سمعوا كلمة ثقافة أطلقوا النيران، وذهبوا وبقيت البشرية تتطور بثقافات متعددة، نظيفة وقبيحة، طيبة وسيئة، تقدمية ومتخلفة، في تنوعٍ مذهلٍ يحكمهُ ويطوره ويقزمه الناس وإدراكاتهم واختياراتهم.
إنها مهمة خطرة وكارثية أمام أصحاب الإغلاقات والموانع والقيود الحديدية للفضاء، كان غيرهم يقطع ويمنع المجلات والصور وفوجئ بالمطر الإعلامي الكوني يتسلل إلى كل قبيلة نائية في الصحراء، والخيام تركب الدشات!
وهذه تحديات أمام الإعلام الشرقي الذي لايزال يعيش في زمن داحس والغبراء، زمن الشلل والعصابات وأرباع الحقائق وغياب العقول النقدية.
الأعجب هو الهجوم على المواقع الثقافة الرصينة وقضايا الفكر ويتم إدخالها بمواقع السياسة “الشعبوية” والفوضوية، في محاولات لتضييع الحدود بين النقد الجاد والنقد غير الجاد وغير المسئول.
يريدون ثقافة سياسية دينية واجتماعية محنطة عليها بقع كبيرة من المدح، لكن النقد لا يعرف الحدود، إنه عقول لا تتوقف عن البحث فيما أن القيود تضيق وتصدأ كل يوم.
وما كانوا يمنعونه أمس يقدمون له الجوائز في اليوم التالي، وما هو محظور ولاغ صار رسميا ومحتفى به، ومن كان في السجون صار حكوميا.
هو الوقت ولو انهم يصبرون ويقرأون ويبحثون ويوسعون نافذة الحرية الصغيرة لضحكوا على أنفسهم من جهلهم السابق.

أخبار الخليج 13 يوليو 2009