المنشور

دمــوعُ البقــرة


يمشي تحت الأشجار في دروبِ الجزيرةِ ملتقطاً اللوز، يضعهُ في خرجٍ كبير.
جسدهُ الممتلئُ يعوق انحناءاته الكثيرة، يبعثرُ ورقَ الشجر الكثيف المتساقط، يرى وزغاً يتدافع قرب قدميه الحافيتين يبتسم: (ماذا تفعلين هنا؟ تتناسلين؟ اذهبي إلى تلك الأحجار الصلبة عند البحر. هيا، هيا، امضي قبل أن يخرج القيدية من الساحة ويدوسونكِ.). تتطلعُ إليه الكائناتُ الهزيلة الطويلة وتتصادمُ بورق اللوز وتسرع نحو التراب وشقوق الأحجار.

هذه الغابة سبق أن رآها، هناك على البحر، قرب قدور الكاز الكبيرة، البيضاء الواسعة، في سترة الشمس، تأتيها الأنابيبُ من الصحراء، ووراءها البحرُ الأزرق الذي لعبَ وسبحَ فيه، كانت الغابة قبل تلك القدور، تمتدُ في الأرض، أشجاراً متلاصقة، كثيفة الأوراق، ويجرون هم ويندفعون، كل ربعه بثياب (الشماطيط) التي يلبسونها، وكان هو شبه عار، الرمان، اللوز، الرطب، تتكدسُ في جيوبهم، يجلسون عند الجذوع، تمتلئُ أيديهم بالقشور واللون الأحمر، يتهامسون، ينهضون عنه، يقذفون (العنكيش) عليه، تضربهُ تلك الأشياء الممصوصة على وجهه، يغضب، ويجري نحو ربعه الملاعين، وأغصانُ الغابةِ تصفعه، والأولاد يختبئون، وهو يبحثُ عنهم، ثم فجأة يخرجون من تحت التراب، من فوق الغصون، من لحاء الأشجار، ويضربونه بقوة. 
 
يملأ خرجَهُ بنوى اللوز، أصبح ثقيلاً، يضحكُ بسرور، ضحكة ناشفة، موجزة، يتحركُ خداه بعصبيةٍ فقط، ثم يعودُ لليباس، يرفعُ الخرجَ ويضعهُ على ظهره، ويمشي.
كلما ذهبَ للضابط كي يعودَ إلى بيتهِ يضحكُ الرجلُ ذو البدلة المزوقة الملونة ذات النياشين الغريبة، يقولُ له زملاؤه السجناء القريبون منه ؛ (أنت محكوم بالمؤبد فكيف تريد أن تعودَ لبيتك؟!)، ألا تنتهي هذه المهمة أبداً؟ أليس فيها إجازة؟! منذ أن أحضروه إلى هنا وقيدوه بسلسلةٍ في الجدار قبل زمان طويل لا يعرفُ متى بدأ وهو لم يزر قريته، ولم يعدْ لأمه.

يعبرُ الساحةَ الفارغةَ من السجناء، قدماه تغوصان في الرمل، الشمسُ تلاحقه، لا تزالُ الأغصانُ تضربُ وجهَه، الدودُ ملأ الثمار وتساقطتْ شهيدةً على التراب، يجثمُ على مقعدهِ الترابي، الخرجُ جثم قربه، ومضتْ يدهُ للوز، يخرجُ واحدةً، يضربُها بحجارتهِ، تتكسرُ، تنفلقُ، ويسيحُ سائلها ويقتلُ دوداً يتغذى متوارياً هناك، كان يمصُ رحيقَها، مثلما فعل عمه: اذهبْ يا مهدي واسرقْ الحظرة، اجلبْ كل السمك المتجمع في (حلق) المصيدة، خذْ كل الزجاجات التي يخبئها محمد عبدالزهرة، ستجدُها في الصندوق الكبير في الكراج. يتساءلُ؛ وإذا كان عليه قفل؟ يصيحُ به: اكسره يا ثور! كلُ شيءٍ يجلبهُ لعمهِ، الأسماكُ المتلاعبةُ بجلده، المقززة لأظافره، الفاكهةُ التي يقطفها من البساتين، الزجاجاتُ الكثيرة التي تلْوثُ وتنام على الساحل، الدراجاتُ المتوقفةُ عند الأبواب، الكلماتُ التي تتناثرُ في الدكاكين والمقاهي، ثم يحصلُ على روبية واحدة يفرح بها كثيراً.

يضربُ بقايا الثمار بقوة، يُخرجُ البذرَ الأبيض ذا القشرة الصفراء، تتساقطُ الحبيباتُ الجميلةُ في الزجاجة النظيفة: واحدة، اثنتان، عشر، تمتلئُ الزجاجة، وظهرهُ ما زال قوياً، والشمسُ تمشي، والسجناءُ في الحدائق يزرعون، وفي الأرض ينظفون، وهو يرفع الزجاجة بفخر.

يصرخُ على أمه؛ (عمي يأخذ كل شيء، ثوبي تمزق ولا يعطيني نقوداً)، ترفعُ أمهُ صوتـَها عليه؛ (وماذا تريد بالثوب يا أبله؟).
كانت مراراتهُ كثيفةً هنا، غير أنه لا يبكي، يمضي حانقاً، يكلم صديقَهُ سلطان في العمل، (لماذا يفعلون بي ذلك؟ أمي لا تنتبه لي أبداً. تكرهني!)، ينزلان من الشاحنة ويتوجهان لكومةِ الحجارة والألواح والأسياخ ويبدآن في تحميلها. يقولُ له سلطان: (صرتَ كبيراً الآن، أجر غرفةً أو عشةً وعشْ وحيداً!).

زاويتهُ في البيت معروفة، شقٌ بين جدارين، هناك كومةُ أشيائهِ، وعمهُ يجمعُ الرجالَ والنقودَ ويمضي في سيارات كثيرة ملأى بزينة وبأصواتٍ صاخبة، والرجالُ معهم أوراقٌ وصور، ويغنون وينشدون، ثم يعم هدوءٌ لطيف. يكره هذه الزفات الغريبة والحشود الهائجة، ويحبُ النومَ ورؤيةَ النساء العاريات في المجلات، والسباحةَ في البحر وصيد السمك. كم سفّط السمكَ في سوق القرية! لماذا لا يفرُ ويمضي إليها؟

تتلألأ الموجاتُ في عينيه، ترقصُ ثيابُ النسوةِ الملونة، وهو يطوفُ بين سُحبِ الحَمام، كلما اكتملتْ عدةُ زجاجاتٍ بالبذر لبسَ أفضل ثوبٍ عنده، ومشى بنعالهِ الوحيدة، ومضى للضابط أو للضيف القادم لجزيرة السجناء، أو حتى أنهُ يتمارضُ ويضع زجاجاته في حقيبة ويركب لنجَ الشرطة حين تمضي للمدينة محملةً بالمرضى من السجناء أو المحظوظين من الذين لم ينسهم أهلُهم وحصلوا على زيارات، وهناك يقدمُها بكلِ تواضعٍ لضابط السجن، ومساعديه، الذين يتابعون الزيارات ويقرأون رسائلَ السجناء قبل أن تمضي لأهلِهم ويضربون المساكينَ بعقابِ الفلقة، ومرةً سمعهم يضحكون بعد استلامهم كلَ تلك الزجاجات ويقولون: (إنها لذيذة وتصلح للسكرة كمزة هذه الليلة!)، وهو يعودُ مثقلاً، السفينةُ الصغيرةُ تتقلبُ في المياه، ومعدتهُ حامضة، لم يأكلْ حتى الطبخة اللذيذة التي يصنعُها سجناءُ المنامة في القلعة.
وكل تلك الزجاجات وتلك السحب الخضراء من اللوز، والعصافير المقلية والحَمام الغريب المُصاد الموضوع في أقفاص والأسماك الكبيرة المجففة، لم تفتحْ بابَ الخروج له، ظل قروناً في زنزانته، يرى وجوهاً مثل نقاط البحر حتى اختلطت عليه، وتاهت الأسماءُ والأيام، ويأتي فتيةٌ ويرونه ثم يخرجون ويعودون رجالاً ويتطلعون لموقعهِ في ذاتِ المكان، عند أول زنزانة من جهة الشرق، ويفتحون أفواهَهم دهشةً وعيونهم دموعاً.

كثيراً ما يتمددُ متطلعاً للسقف ساعات طويلة، يتذكرُ تلك البقرة الوديعة التي لاطفتْ أيامه، يرضعُ منها جائعاً، وترمقهُ بود، حتى قرروا ذبحها، فبكى وحمل سكيناً مُهدداً من يقتربَ منها، لكن بضعة رجال هجموا عليه وربطوه وهو يقطعُ الحبالَ ويهزُ الرجالَ، وحين تمكنوا من ذبحِها فكوه ليتلوى على التراب.

في الليالي الطويلة التي تمشي بلا رحمة، في الليالي القائظة التي لا يتحركُ فيها عشٌ أو ريش، التي يرقدُ فيها وهو يسبح، يتساءلُ بذهولٍ لماذا هو هنا؟ ترتعشُ حبيباتُ ذهنه، تضيء. كان عمهُ مذهولاً وهو يراهُ يحدقُ فيهم وهم يسرقون المخزن. ظهرَ من حيث لا يعلمون، يسألُ عن نقودهِ التي يأخذها عمهُ ولا يشتري له حلوى ولا يعرسهُ مثل الآخرين.

يضربهُ العمُ بشدة ويحذره: (لا تتحدث بشيء). كانت دموعُ البقرة تتحولُ إلى روافد في الجزيرة، خرير مياه، وهو جاثم تحت الأشجار، يدهشُ كيف تبكي تلك الأم ولماذا لا تخرجُ مياهٌ من عيون البشر؟ يكلمُ النوارسَ ويطيرُ معها مغادراً بفرح.

كان ثمة رجل في المحكمة يقول بغضب: (جريمة مع سبق الإصرار والترصد)، جملةٌ كلمَ أناساً كثيرين ليفهمها من دون فائدة، لم يسمعْ سوى ولولة أمه لاحقاً، أنشبتْ أظافرها في لحمه، وكلما جاء مساجين جددٌ سألهم عنها، ورأى القريةَ على شموعِ كلماتهِم ولم ير البساتين والحظور، وفي أحلامه الكثيرة مشى فيها ودخلتْ في مسامهِ كالغازاتِ المشتعلة، وأخذ البقرةَ من الحظيرة إلى الحقول، ووضع أمه على عربة ومضى بها.

يضربُ اللوزَ، يضربُ، وتتطايرُ الأماني، ويحملُ الزجاجات في عواصفِ البحر، يضربُ يتطاير السائلُ الأحمرُ منها، يتفجرُ الدم، يضربُ رؤوسَ السجناء بالحصى، يضربُ جدران زنزانات العقاب، حيث يجثم قطاً متوحشاً، يصرخُ الرجلُ في المحكمة: (جريمة . . !)، وهو الذي غطى رأسَهُ عن ضرباتِ عمه وصحبه، وسالَ السائلُ اللوزي من جسده، ثم أمسك زوجَ أمه بقوة، وحضنه بشدة حتى صمت صوته البشع، يضربُ الثمارَ اليابسة، بساطٌ منها يجثم في الشمس ليجف، سجاجيد كثيرة تصفر ثم تزهر في الزجاج، تهاوى عمهُ، صار خرجةً، كلمه لينهض بلا فائدة وأمه تولول.
هل فعل شيئاً؟ متى يعود لقريته؟!