المنشور

بين زنوج البصرة.. وزنوج أمريكا

مع ان العرب، وعلى وجه الخصوص حركاتهم وقواهم السياسية المعادية لأمريكا والغرب، من أكثر شعوب الأرض قاطبة تنديدا وتشهيرا بما ارتكبه هذا الغرب من انتهاكات وجرائم عنصرية بحق شعوب القارة السوداء، ولاسيما خلال الحقبة الاستعمارية حيث جرى استعباد شعوب معظم بلدان هذه القارة وتم نهب خيراتها واسترقاق الملايين من أبنائها والمتاجرة في هؤلاء الافريقيين الأرقاء وتصديرهم إلى اسواق النخاسة في الغرب، وعلى الأخص الولايات المتحدة التي تعد أكثر البلدان الغربية تورطا في فضيحة استيراد الرقيق الأسود، إلا ان العرب أنفسهم الذين يروق دائما لهم التشهير بالامريكيين وتذكيرهم بفضائح أجدادهم التاريخية لارتكابهم تلك الجرائم العنصرية ينسون أو يتناسون ان اجدادهم كانوا من أسبق الامم في مزاولة تجارة الرق الافريقي قبل قرون طويلة من مزاولة الاوروبيين والأمريكيين لهذه التجارة الخسيسة منذ بدايات غزوهم للبلدان الافريقية.
ولعل من أكبر الشواهد والوقائع التاريخية الدالة على اسبقية العرب في التورط في تلك الفضيحة الزنوج الذين تم استقدامهم من شرقي افريقيا خلال الدولة العباسية في القرن الثالث الهجري حيث تم تسخيرهم لشق القنوات وتنظيف الأراضي السبخة لتمهيدها للزراعة. هذا بالاضافة إلى ما يقومون به من أعمال شاقة أخرى في منتهى القسوة وفي ظروف مناخية تتسم بالحرارة والرطوبة المرتفعتين خلال اغلب شهور السنة، وتحديدا في جنوب العراق حيث يشبه مناخه مناخ الخليج العربي وعلى الأخص في البصرة والمناطق المحاذية أو القريبة منها.
ومن تسنى له الاطلاع على شذرات تفصيلية حول الظروف التي عمل في ظلها أولئك الزنوج ويقارنها بظروف العبيد السود الذين عملوا في مزارع الجنوب الأمريكي سيرى بأنها متشابهة ما لم تكن ظروف عمل زنوج البصرة خلال الخلافة العباسية اقسى بكثير من ظروف عمل زنوج أمريكا.
وعلى الرغم مما ارتكبه المؤرخون المغرضون من تشويه فظ لانتفاضتهم العارمة عام 257هـ بقيادة علي بن محمد وحيث جرى تصويرهم كمارقين خارجين على الملة والخلافة، فإن ثمة مؤرخين عربا أعادوا الاعتبار موضوعيا لانتفاضتهم كواحدة من أكبر الثورات في التاريخ العربي الاسلامي احتجاجا على الظلم والاضطهاد الطبقي والاجتماعي وطلبا للمساواة وتحقيقا للعدل من جور ملاك الأرض وجلهم من “أشراف العرب”.
صحيح ان زنوج البصرة اتسمت انتفاضتهم الشعبية بالانف الثوري الفوضوي مما أفضى إلى مقتل ما لا يقل عن 300 ألف انسان من أهالي البصرة، ناهيك عن تدمير وحرق مئات البيوت والحقول إلا ان ذلك العنف الثوري الفوضوي لا يطمس بأي حال من الأحوال عدالة قضيتهم ورفضهم للعبودية والظلم والتمييز والاضطهاد العنصريين الصارخين. كما أن لجوء زعيمهم علي بن محمد إلى الادعاء بأنه “المهدي المنتظر” لا يفسره سوى كون الوعي السياسي والثقافي السائد حينئذ بين الناس، وبخاصة البسطاء منهم، هو الوعي الديني، وما كان زعيم ثورتهم ليستطيع استمالة الزنوج المسحوقين والتنظير السياسي الفوقي لحركتهم الاجتماعية سوى باللجوء إلى هذه الحيلة أي الاستعانة بالفكر الديني، حيث لم تكن الافكار والنظريات الثورية الحديثة معروفة أو قد ولدت حينذاك.
وإذا كانت ثورات زنوج أمريكا المستعبدين، فضلا عن الثورات الاجتماعية الديمقراطية، التي شاركت فيها مختلف الأعراق، بخاصة منذ اندلاع الحرب الأهلية الامريكية بين الولايات الجنوبية والولايات الشمالية (1860م – 1865م) قد أفضت لاحقا إلى اعلان منع الرق وتحرير العبيد الذي أصدره الرئيس لينكولن خلال الحرب، وصولا إلى حركة الحقوق المدنية في أواسط القرن العشرين التي تمخضت عن اعلان الحقوق المدنية وحظر التمييز العنصري ضد السود، بغض النظر هنا عن استمرار بعض الممارسات التمييزية على ارض الواقع ضدهم على نقيض القانون، فإن احفاد زنوج البصرة حتى بالرغم من تحريرهم من العبودية ظلوا يعانون التمييز الاجتماعي غير المعلن ضدهم إلى يومنا. وزاد من تكرس هذه الممارسة العنصرية المقيتة ان العراق، وعلى عكس الولايات المتحدة، تعاقبت عليه أنظمة استبدادية منذ الخلافة العباسية إلى يومنا هذا، هذا على الرغم من خلو تشريعات الدولة العراقية منذ تأسيسها في العشرينيات من أي نص يحض على التمييز بسبب اللون أو المذهب أو الدين، ومع تفجر حوادث العنف والارهاب الطائفية بعد الغزو الامريكي للعراق عام 2003م طفحت على السطح مجددا قضية زنوج البصرة الذين اعلنوا مطالبتهم بالمساواة، علما بأن العديد منهم قد تصاهروا مع العرب الاقحاح، لا بل ان بعضهم وصل إلى مراتب اجتماعية عليا واعتنقوا مختلف المذاهب الاسلامية. على ان ثمة نظرة اجتماعية متعالية تجاههم ظلت مستمرة، ومازال يطلق عليم في الاوساط الاجتماعية “عبيدا” استنادا إلى بشرتهم الافريقية السوداء.
بقي ان نشير إلى انه مثلما حافظ زنوج امريكا على فنونهم الموسيقية والغنائية الشعبية التي جلبوها معهم من افريقيا وطوروها وتوارثوها جيلا بعد جيل حتى يومنا هذا، فان زنوج البصرة ظلوا أيضا محافظين على موروثهم الانساني الفني الافريقي الفلكلوري جيلا اثر جيل، كما لهم أيضا ألحانهم المميزة التي تعزف فيها الدفوف والطبول معزوفات مثل: بيب وانكروكا وجونباسا والليوة والنوبان، ولربما بعض فنوننا الموسيقية الشعبية مستمدة منهم، وليس بالضرورة مستمدة مباشرة من افريقيا.

صحيفة اخبار الخليج
3 يوليو 2009