المنشور

الثلث المعطل في المنطقة

يمثل لبنان حالة المنطقة بوضوح أكبر من بقية الدول، لكونه لم يعش حضوراً لدولة استبدادية عريقة، مثلتها الحركات القومية واليسارية، لكنه مع ذلك لم يخرج من تطور المنطقة وقوانينها.
وتبدو حالة الثلث المعطل هي حالة العالم العربي الإسلامي وهو يعيش مثل هذه الحالة المتوارية داخله فتبرز في لبنان بصورة فاقعة ساخرة.
لقد جاء سقوط نماذج الدولة الوطنية العسكرية الشمولية في مصر والجزائر والعراق وغيرها غير الكامل والحاسم، لتظهر مرحلة أخرى لانزال نعيش ثلثها الأخير، ونصعد إلى قمتها المأزومة الخطيرة.
حاولت الأنظمة والحركات الدينية أن تملأ الفراغ، وبرزتْ مذهبيتـُها السياسية بوضوح بين قوى سنية وقوى شيعية، وفيما كانت القوى السنية المتطرفة تلجأ للعمليات الارهابية الوحشية في العديد من الدول، استنكفتْ قوى أخرى سنية عن هذه الأساليب وإن لم تعلنْ موقفـَها الديني بوضوح وعمق، ولم تربط هذا الموقف المذهبي الديني الغامض بقضايا السياسة والتحولات الفكرية والديمقراطية في العالم.
ولايزال هذا الموقفُ الرجراجُ الغامضُ للحركاتِ السنية المحافظة يلعبُ دوراً في تفريخ القواعد التحتية من المغامرين والمتطرفين الذين يرتكزون على هذه الضبابية لإنشاء تشكيلاتهم المنسلخة ويطرحون شرعهم الحركي العنفي كما تريد زعامتهم، أو في الاستخدام العام لهذه الضبابية في التحالفات غير المبدئية مع الحكومات الشمولية، أو في التسلل لأجهزة السلطات، أو في تنويم الجمهور الفقير في إصلاحات وتغييرات لا تأتي، بسببِ هذا الغموض البرامجي وعدم مقاربة هذه التنظيمات مع الحداثة العصرية الديمقراطية التي لا يوجد غيرها في العالم السياسي الراهن.
فأقدام اليمين السني المحافظ تقفُ في معسكراتٍ كثيرة غير محددة، فهي مع تلك الحكومات الشمولية والاستغلالية وهي مع الفئات الوسطى الكبيرة خاصة في مؤسسات المال والاستثمار، وهي مع الجمهور الفقير عبر الصدقات وأشكال العبادة.
وبطبيعة الحال فإن إصلاح هذا اليمين الديني السني المحافظ ممكن على المدى الطويل عبر تعبيره عن الفئات الوسطى وحركتها الرأسمالية الحديثة الديمقراطية، أي بأن تفكك هذه الحركات ما له علاقة بالعنف وتبرير الحركات الارهابية والأنظمة الشمولية، وللتمثيل الأوحد للدين، وأن ترتقي مع التطورات الاجتماعية الحديثة في فهم علاقات الزواج والأسرة والثقافة، مع حقوقها في الدفاع عن تصوراتها المحافظة فيما يتعلق بهذه العلاقات الأسرية والثقافية من خلال المؤسسات التشريعية والاجتماعية الديمقراطية في المجتمع.
رغم كل السلبيات في المذهبية السنية فإننا نجد تشكل وسطية سنية منفتحة في العديد من الدول العربية والإسلامية هو أمرٌ بارز وقوي، وهو الذي سوف يؤسس لانتقالات ديمقراطية أوسع رغم وجود التيار المتطرف الذي يقوم بطرح المطلقات الحادة والرفض القاطع للحداثة والديمقراطية والأممية الإنسانية، لكنه تيار يظل خارجيا يتسلل عبر ثغرات المشكلات الكبيرة في هذه الأنظمة المذهبية، غير القادرة حتى الآن على الانتقال للإسلام العلماني الديمقراطي، وعلى رفع مستوى الأغلبية الشعبية في العيش.
ويختلف نمو المذهبية الشيعية عن المذهبية السنية فقد كانت تعيش دائماً في المناطق الريفية، وكانت أشكال التطور الرأسمالية الحكومية العسكرية عامة قد خلقت في الأرياف والبوادي الإسلامية اختلالات كبيرة ورهيبة في توزيع الثروة وتوزيع السكان وغمر المدن الكبرى بالملايين المقتلعين من أراضيهم ومناطقهم، ومن غيابِ مواردِهِم، أي أن المذهبية الشيعية كانت أكثر عرضة لبرامج التجريب العسكرية واختلالات الثروة سواء على يد الشاه وصدام أو إسرائيل في جنوب لبنان وغيره من المناطق.
التحمتْ في المذهبيةِ الشيعية منجزات وسلبيات الأنظمة العسكرية (القومية) السابقة، التي تجاوزها العالمُ العربي السني بشكلٍ غير حاسم حتى الآن، من حيث سيطرة الأجهزة العسكرية والرؤى الشكلانية النصوصية الشديدة للإسلام، وغلبة المحافظة الاجتماعية بسبب ريفيتها، وهو أمر تتفق فيه مع الحنبلية البدوية، وإن فارقتها في جوانب أخرى.
فقد عرفتْ المذهبية الشيعية مسألة العبادات الاحتفالية الاجتماعية الدينية السياسية، وهو جانبٌ تشكلَ بسببِ عمليات القهر الطويلة من قبل الأنظمة الاستغلالية، وهذا الجانب أهلها لأن توظفهُ في السياسة الفاعلة، مما جعل جمهورها اكثر حراكاً، وهذا تجسد بصفة خاصة في إيران، التي عرفت الدولة الشيعية الأولى حتى الآن.
ومن هنا فإن جمهورية إيران الإسلامية عرفت جوانب شديدة التناقض، فشكلت رأسمالية دولة حكومية شمولية بقيادة دينية محافظة، وأدى الحصار والحرب مع العراق إلى توسيع المؤسستين العسكرية والاستخبارتية في النظام، ثم واصل هذا إلى كبت المجتمع المدني وقهره، ممثلاً بالفكر الحر والنساء والعمال وتغليب المحافظة الريفية، وهو أمرٌ عارض المذهبية الشيعية نفسها.
ولهذا فإن مصالحة بين القطاعين العام والخاص، بين مؤسسات الحكم والمجتمع المدني، والأفق السياسي المنتظر، وهو أمر يبدو انه لن يتحقق إلا بهزة سياسية عنيفة. لهذا فلا توجد مسألة هدم النظام، لكن الجانبين المتعارضين راحا يشقان طريقين مختلفين متصادمين متروكين للمصادفات الاجتماعية، لكن النظام لن يكون أبعد من نظام(ساداتي).
وهي مسائل تعود للتناقض في نمو المذهبية الشيعية بين محدودية التعددية الفقهية والانفتاحية، وبين الصدامية والانحصار خوفاً من التذويب، وقيام الأرياف بلعب دور المنتج للوعي المذهبي.
هذا ما يؤدي على ساحة المنطقة العربية الإسلامية عامة إلى قيام إيران وحلفائها بدور الثلث المعطل، تجاه قضايا التعاون مع الغرب الديمقراطي وحل المشكلة الفلسطينية، وقضايا الحداثة والعلمانية والتقدم. ويحدث ذلك من خلال المزايدة اللغوية والفرقعات السياسية، والتدخلات العملية، فتعكس إيران تناقضاتها الداخلية على المنطقة، وتهربُ إلى الخارج بدلاً من أن تصل إلى تسويات داخلية عميقة، وبالاعتراف بأن تلك المقاربات الحداثية والديمقراطية لا تعني هدم الإسلام ومذاهبه، ولا غزو إيران، بل معايشات عميقة مع الشعب العامل والعصر والإنسانية.
هذا ما فعلته الأنظمة العسكرية القومية العربية وقد استنزفتنا خلال حضور دام عشرين سنة على الرغم من إيجابياتها الوطنية والاقتصادية في جوانب، لكنها خرجت من الساحة عبر إطلال وهزائم عسكرية مريرة وأنظمة فوضوية السوق وجمهورية شكلية تحولت إلى ملكيات استبدادية اسوأ من التي ثارت عليها.
لهذا فإن ما يرددهُ بعضُ الكتاب الجامدين في فهمه هو نفسه ما ردده أيام جمال عبدالناصر وصدام وغيرهما، والمسألة لا تحل بهذه القطيعة الشرقية وبهذه الدكتاتورية العسكرية، وبالمزاعم بالوطنية والقومية وبالهوية الإسلامية الوحيدة القاهرة.
حين يحدث التصدع والانهيار وتحدث كوارث للنظام الإيراني يكون جميع العرب والمسلمين خاسرين خسارة مؤلمة، وبقاء النظام الإيراني وتطوره وتوجهه للديمقراطية والحداثة أي أن يحل تناقضاته الداخلية بصورة وطنية منفتحة، هو مكسب كبير للشعوب العربية الإسلامية.

صحيفة اخبار الخليج
3 يوليو 2009