المنشور

أسبوع الكرامة الإنسانية


نبت شاعر الرمزية الروسي ألكسندر بلوك من التراب بأحاسيسه الإنسانية النبيلة. وبمزيج تلك الأحاسيس قرض الشعر وهو ابن الخامسة. كان منصفاً تجاه الأشياء والكائنات والزمن. وحتى أنه أنصف التاريخ بتوزيع حياته بالتساوي بين القرنين التاسع عشر والعشرين (1880-1921) ليعايش بالقدر نفسه بشر قرنين. وقد وصف فأنصف بني جلدته حين قال: «الإنسان – حيوان.. الإنسان – نبات، وردة، فيه تتقاطع معالم القسوة المتناهية والتي تعتبر حيوانية غير إنسانية، ومعالم اللطف البدائي، الذي يعتبر نباتياً وغير إنساني هو الآخر». وإذا كانت هذه المعالم تتقاطع في الإنسان الواحد فإنها أيضا تتقاطع في جموعه، في المجتمع. هناك الجلاد والضحية وهناك المستغِل والمستغَل.
أما أي كرامة وأية قيمة؟ فيجيبنا شاعر آخر عاش في زمان بلوك نفسه، هو الروائي والرومانسي الإنجليزي توماس هاردي (1840-1928)، بأنها ليست تلك الناجمة عن المظهرية الزائفة التي تفرضها الطقوس المجتمعية، بل: «في الحق والشرف والعدالة والطهر والاسم الطيب». وبين ثنائيات هذه المتناقضات يضنيك البحث عن الكرامة الإنسانية، ناهيك عن تحقيقها.
البحث عن الكرامو هو ما دارت حوله أنشطة ثلاثة جرت الأسبوع الماضي في مملكة البحرين. المنبر الديمقراطي التقدمي أقام حفلاً تأبينياً، ودفعة واحدة لأربعة من مناضليه ومناضلي الحركة الوطنية والعمالية. لقد اختطفهم الموت في الأشهر القريبة الماضية، لكنهم من أجيال مختلفة. ما يجمعهم هو أن كلا منهم رحل وفي الحلق غصة. المناضل جعفر الصياد تذكره الحركة العمالية اليوم وهي تناضل موحدة الصفوف ضد آثار الأزمة الاقتصادية العامة. فالصياد كان من بين منظمي أوائل إضرابات عمال شركة نفط البحرين (بابكو) دفاعاً عن مصالحهم في وجه الشركة التي كانت تمثل دولة داخل الدولة. وتذكره الحركة السياسية باعتباره حضر أول اجتماع لتأسيس جبهة التحرير الوطني البحرانية في 15 فبراير/ شباط ,1955 حيث يشكل المنبر التقدمي الامتداد التاريخي والفكري للجبهة التي مثلت حزب الطبقة العاملة وكادحي العمل العضلي والفكري. عانى جعفر الصياد من الاعتقال والتعذيب النفسي والجسدي والتشرد والمحاربة في لقمة العيش. ثم رحل بالصمت الذي عرف عنه لتواضعه، والصمت الذي لايزال يقابل به عهد الإصلاح مآثر الذين أفنوا حياتهم في مناهضة الاستعمار البريطاني ومن أجل الاستقلال الوطني والإصلاحات الديمقراطية. وابن المنبر مناضل الجبهة والحركة العمالية القديم منصور أوال. في العام 2001 حضر منصور المؤتمر التأسيسي للمنبر التقدمي مدفوعاً على كرسي الإعاقة التي لم تمنعه من الإسهام في ذلك الحدث الكبير. ومن قدامى المناضلين المؤبنين كان سلمان علي سلمان الذي شكلت عائلته حاملاً متصلاً لتقاليد النضال الوطني والعمالي، وشكل سلمان منذ الستينات نموذجاً للمناضل والنقابي العنيد الذي عانى وإخوته الحرمان من الجنسية لسنوات طوال. وكان أصغر المؤبنين المناضل وحيد الموسوي الذي رحل باكراً بعد أن أسهم بقسطه في النضالات الطلابية والشبيبية والعمالية والحزبية فنال قسطه من المضايقات وما اقتضته ظروف النضال السرية.
في كلماتهم كشف ذوو المؤبنين كثيراً مما لا نعرفه عن حياتهم الإنسانية الداخلية وعن الضيم الذي لحق بأسرهم وذويهم بدافع الانتقام ليس إلا. رحل الأربعة كما رحل غيرهم من دون أن ترد لهم الدولة الاعتبار ضمن مشروع حقيقي للمصالحة الوطنية القائمة على مبادئ العدالة والإنصاف. المحامي محمد علي سلمان ختم كلمته التأبينية لأخيه المناضل سلمان بكلمات المناضل نيلسون مانديلا: «نستطيع أن نغفر، لكننا لا نستطيع أن ننسى».
ولعل هذا القول كان بمثابة تدشين للاعتصام الجماهيري الذي جرى الجمعة الماضية احتفاء باليوم العالمي لمناهضة التعذيب بتنظيم التحالف من أجل الإنصاف والعدالة. جدد المعتصمون دعوتهم التي أطلقوها منذ تأسيس التحالف إلى «ضرورة تشكيل لجنة وطنية تضم في عضويتها شخصيات وطنية مشهود لها بالنزاهة لجبر ضرر الذين تعرضوا لانتهاكات في مرحلة قانون أمن الدولة»، وبإلغاء القانون 56 الذي يمنح الحصانة لمن ارتكب أعمال التعذيب. لقد صدّقت مملكة البحرين على اتفاقية مناهضة التعذيب العام .1998 وبموجب المادتين 13 و,14 فإن هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم. لكن الدعوة إلى مقاضاة من ارتكبها وإدانة أفعالهم لا تأتي بهدف الانتقام إذ لا أحد يطالب بتطبيق عقوبة بقدر ما يطالب بإنصاف المظلوم وتعويضه وإنصاف التاريخ نفسه. بمثل هذه الطريقة فقط يمكن أن نعيد للكرامة الإنسانية وجهها وعناها الحقيقيين.
النشاط الثالث لصون الكرامة الإنسانية تمثل في مسيرة يوم الجمعة الجماهيرية التي نظمها الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين وجمعية المصرفيين من أجل عودة موظفي المصارف المفصولين من أعمالهم، وخصوصاً موظفي بنك الخليج الدولي، ووقف موجات الفصل المتتالية التي تقدم عليها المصارف والمؤسسات المالية والشركات المختلفة. مرّت المسيرة بين المباني العملاقة والفاخرة التي تضم المصارف والمؤسسات الاقتصادية المختلفة. ولم تكن هتافات المتظاهرين المدوية عبر مكبرات الصوت تراعي الهشاشة التي أصبحت عليها تلك المباني فغدت «آيلة للسقوط». لقد ضاعف فشل إدارات هذه المؤسسات من تأثير الأزمة العالمية عليها. الغريب في الأمر أن المؤسسات تعلن تباعاً عن استمرارها في تحقيق مزيد من الأرباح وعن أن الأزمة لم تطلها بينما تستمر في فصل مزيد من موظفيها. أما الواقع فيقول إن الذين لم يثبتوا جدارة في إدارة المؤسسات المالية يتمتعون اليوم بوفورات مالية كبيرة حققوها في السنوات الماضية ولايزالون يحتفظون بامتيازاتهم، بينما ضحايا الأزمة هم متوسطو وصغار موظفي تلك المؤسسات.
العمل حق وواجب. هكذا يقول الدستور. والعمل اللائق والحياة الكريمة هما من أبسط مقومات الكرامة الإنسانية. هكذا تقول شرائع حقوق الإنسان الدولية والوطنية. فلا كرامة مع البطالة، ولا كرامة مع الفقر، بالضبط كما لا كرامة مع التعذيب ولا كرامة مع غياب العدالة والإنصاف واحترام التاريخ
.