المنشور

مديح الظل

لم يسبق لي أن قرأت مديحا للظل، كذلك الذي يقدمه الروائي الياباني: جونشيم تانيزاكي. اعتدنا أن نمدح النور والضياء، حتى حين نقول كلاماً طيباً عن الظل، فإننا نفعل ذلك مأخوذين بفكرة الضوء ذاتها، كأن جماليات الظل آتية من جماليات الضوء، كأن الظل ليس سوى انعكاس للضوء. لكن تانيزاكي يذهب مذهباً آخر حين ألف كتاباً أسماه: «مديح الظل» .. وهو بالفعل كتاب أريد به إبراز ما للظل من لذة ومتعة. والكتاب ليس عن الظل وحده، إنه عن اليابان، اليابان الأخرى التي لا نعرفها، غير يابان السيارات وأجهزة الفيديو والتلفزيون والكاميرات. لذا ليس عبثاً أن المؤلف يطرح السؤال التالي: «أي منحى سيسلكه الفكر الياباني لو كان مخترع قلم الحبر يابانياً أو صينياً؟، أي شكل سيتخذه المجتمع الياباني لو لم يتبن أدوات الغرب؟ ماذا يحدث لو نشأ الطب الحديث في اليابان؟ وهو لا يكتفي بالسؤال وحده، إنه يجيب أيضاً: « لو حدث ذلك لسارت اليابان في اتجاه مغاير نحو عالم مختلف يناسب طبع الياباني ويثري خصوصيته في كل مجالات الحياة». بيد أن الرجل لا يفعل ذلك من زاوية الرغبة في صنع واقع بديل أو اقتراح مستقبل آخر لليابان: «لقد حدث ما حدث. والعودة إلى الوراء لم تعد ممكنة». لكنه يضع على عاتقه مهمة أخرى هي إحياء عالم الظل، لأن اليابانيين القدامى هم من اكتشفوا أسرار الظل وقوانينه. على خلاف الغربيين فإن أهل اليابان برعوا في استخدام الظل، واستطاعوا أن يجعلوا منه عنصراً جمالياً أساسياً في تفاصيل حياتهم اليومية وفي تصميم بيوتهم ومطاعمهم، وحتى في مسارحهم. والأمر الذي نقوله هنا عن إحياء عالم الظل يجب أن يؤخذ على سبيل المجاز، إن المؤلف ينبئنا بأنه لا يريد أن يتحول في كتابه إلى شيخ تقدم به العمر فأصبح واعظاً يشتم ما جلبته الحضارة الحديثة من وسائل ومتغيرات في المفاهيم والسلوك. لكنه ينحو في كتابه منحى فلسفياً يذكرنا بذلك المنحى الذي عالج فيه «باشلار» الأمور في جماليات «المكان» أو «شعلة قنديل»، إنه يمتعنا بحديثه حين يأخذ بأيدينا على مهل نحو تلك التفاصيل الحميمة النابعة من تأملاته وحدوسه ومن تجربته الشخصية أيضاً، أي إنه لا يقدم لنا دراسة أكاديمية جافة، وإنما نصاً أدبياً ممتعاً فيه سيرة للذات وسيرة للمكان وسيرة لعادات أليفة مهددة بالزوال. إن قصده من «مديح الظل» هو طرح سؤال لمعرفة ما إذا بقيت في هذا الاتجاه أو ذاك، في الآداب أو الفنون مثلاً، وسيلة لتعويض الضرر. وفيما يتعلق به هو شخصياً، فإنه يحاول إحياء عالم الظل الذي نبدده حالياً، إحياء تلك الأشياء الأليفة التي تُبدد، والإحياء هنا لا يعني إعادتها نمطاً لحياة شقت لنفسها مجرى آخر، وإنما إقامة تلك «الجزر» الصغيرة من الأشياء الآفلة، ذكرى لعالم يذهب في الماضي، حيث ليس بوسعه أن يعود.
 
صحيفة الايام
27 يونيو 2009