المنشور

بنت المنبوذين.. رئيسة للبرلمان الهندي

مازالت الهند وعلى الرغم من مرور ستة عقود على نيل استقلالها الوطني (عام 1947م) صامدة سياسيا بنظامها الديمقراطي الدستوري العريق في بلد يُعد من أكثر بلدان العالم فقراً وثاني بلد في عدد السكان (مليار ونيف) بعد الصين، ومن أكثر بلدان العالم في تنوع فسيفساء تركيبته الاثنية والقومية والدينية والطائفية والثقافية. ولك أن تتأمل وتتخيل مصير ووضع هذه الدولة التي توصف بأنها ذات أكبر الديمقراطيات في العالم، نظراً لكثافتها السكانية المرتفعة، لولا لم ترس دعائم متينة لنظامها الديمقراطي منذ غداة استقلالها وهو النظام الذي أضحى مرجعية لكل المواطنين الهنود، بمختلف قواهم السياسية والدينية والقومية، يحتكمون إلى قواعده وقوانينه الدستورية المستقرة في إدارة خلافاتهم وصراعاتهم التي تصل في أحايين غير قليلة إلى الاقتتال، أوليس كان وضع هذه الدولة أكثر تمزقاً وأكثر معاناة من الحروب الأهلية المتنوعة؟ فعلى الرغم من كل هذه الحروب والصراعات التي مرت بها الهند منذ عشية استقلالها عام 1947م والتي وصل بعضها إلى الانفصال على أسس دينية عن الدولة الأم، كانفصال المنطقة التي تعرف الآن بدولة باكستان والتي انفصلت عنها بعدئذ عام 1971م، وما تعرف الآن بـ “جمهورية بنجلاديش”، فإن النظام السياسي الديمقراطي الهندي مازالت دعائمه وطيدة مستقرة وأكثر مناعة وقوة على عكس الوضع الدائم الاضطراب الذي ما انفك يواجهه النظامان السياسيان في البلدين الهنديين المنفصلين عن الوطن الأم (باكستان وبنجلاديش) مما أثر في تماسك كل منهما وتعرضه للزعزعة وعدم الاستقرار قياساً بصلابة دعائم النظام السياسي الديمقراطي الهندي الذي أضحى عريقا ومتماسكا، على الرغم مما تمر به البلاد من تحديات وصعوبات أمنية وسياسية واقتصادية.
ولئن كانت الهند قد عرفت بأنها صاحبة أكبر نظام ديمقراطي في العالم فإنها وبفضل هذا النظام مازالت قادرة على تقديم انجازات تقدمية وتطورات ملهمة في سياق تطور هذا النظام الديمقراطي على الصعيد العالمي بوجه عام وعلى صعيد العالم الثالث بوجه خاص، ولعل آخر هذه التطورات المهمة انتخاب ميرا كومار كأول امرأة رئيسة لأكبر سلطة تشريعية منتخبة في العالم. وقد جاءت مبادرة ترشيحها إلى هذا المنصب المهم من قبل رئيسة التحالف التقدمي المتحد سونيا غاندي، وعلى الرغم من الانقسامات التي تشهدها الحياة السياسية والاجتماعية الهندية التي تعكس نفسها على صراعات ممثلي القوى السياسية والدينية والقومية في البرلمان الهندي، فإن اللافت والجدير بالاعجاب هو أن ميرا كومار فازت باجماع كل النواب على اختلاف انتماءاتهم المذكورة.
وفي بادرة تعكس الروح الديمقراطية التي أصّلتها التقاليد الديمقراطية الهندية المديدة المجيدة توجّه كل من رئيس الوزراء مانموهان سينج وزعيم حزب بهاراتيا جاناتا إل كيه أدفاني إلى رئيسة السلطة التشريعية لتهنئتها بهذه الثقة الشعبية الغالية الفريدة من نوعها التي تمثل حدثا تاريخيا ديمقراطيا حضاريا غير مسبوق في تاريخ البلاد السياسي والديمقراطي الحديث منذ نيله استقلاله.
وإذا كان انتخاب امرأة رئيسة لأعلى المناصب الدستورية أي رئيسة للسلطة التشريعية المنتخبة انتخابا حرا كاملا، أي على رأس أكبر برلمان منتخب في العالم الثالث والعالم بأسره، يعد في حد ذاته حدثا تاريخيا غير مسبوق فإنه لا يمكن استكمال فهم دلالة هذا الحدث التاريخي ومغزاه الحضاري ما لم نعرف هوية وسيرة المرأة المنتخبة السيدة ميرا كومار حيث ان ارتقاءها إلى هذا المنصب يعد في حد ذاته ملحمة تاريخية اجتماعية جديرة بالتأمل والاتعاظ من قبل الحركات السياسية المستنيرة التي تناضل من أجل حقوق ومساواة المرأة بالرجل بوجه عام ومن قبل الحركات النسوية بوجه خاص، ناهيك عن دلالات ومغزى الحدث من حيث النضال من أجل تحقيق العدالة والمساواة الاجتماعية.
ذلك أن ميرا كومار كانت تنتمي إلى طائفة تعرف في الهند بـ “طائفة المنبوذين” وهي طبقة فقيرة لطالما عانت تاريخيا التمييز والظلم الاجتماعي على امتداد قرون طويلة على أيدي أبناء الطبقة العليا للهندوس على الرغم من أنها تشكل اليوم 16% من سكان البلاد، أي ما يقرب من 160 مليونا، ومع أن الدستور الهندي أنصف حقوقيا طبقة المنبوذين عام 1950م وحظر كل أشكال التمييز ضدها، وأقر مساواتها سياسيا بسائر الطبقات إلا أن تقاليد وأعراف التمييز والنظرة الدونية لهذه الطبقة مازالت قائمة. ومن هنا يمكننا بالضبط فهم الملحمة السياسية والاجتماعية التي اجترحتها بكل جدارة كومار حتى ارتقاءها رئاسة البرلمان المنتخب الممثل لأكثر من مليار مواطن هم اجمالي سكان الهند إذ ان هذه المرأة العصامية شقت طريقها الوعر إلى هذا المنصب وسط ظروف وعرة وبالغة التعقيد، وكان عليها أن تتخطى بشجاعة ومثابرة حواجز اجتماعية وسياسية، فبالإضافة إلى حاجز “الجندر” كونها تعيش في مجتمع ذكوري الهيمنة والوعي والثقافة، كسائر مجتمعات العالم، فضلاً عن الحاجز الطبقي كونها تنتمي إلى طبقة المنبوذين، وتمكنت من نيل شهادة القانون والماجستير في اللغة الانجليزية، وكانت ناشطة في عدة منظمات ثقافية واجتماعية وكان والدها الراحل مناضلاً في صفوف حزب المؤتمر. وبعد أن عملت كومار في السلك الدبلوماسي عام 1973م متقلدة مناصب دبلوماسية عديدة في الخارج استقالت من وزارة الخارجية عام 1985م لتتفرغ للعمل السياسي والجماهيري. وسبق لها أن عينت وزيرة للشئون الاجتماعية وتبنت قضايا اجتماعية مثيرة للجدل والانقسام في المجتمع الهندي، ومن ذلك تخصيصها مكافأة 1200 دولار للزيجات المختلطة الطوائف والطبقات.
وبعد، أليست في سيرة هذه المناضلة السياسية النسوية وبعد انتخابها بجدارة لرئاسة البرلمان الهندي ما يدفع جمعياتنا السياسية والنسائية إلى استضافتها لإلقاء محاضرة تحكي خلالها تجربتها الفذة ولاسيما في ضوء ما يربطنا بالهند من علاقات حميمة؟
وأعتقد أن البعثة الدبلوماسية الهندية يمكنها أن تقدم، بكل ترحيب، كل التسهيلات الممكنة لمساعدة الجهة البحرينية التي تود استضافة تلك الشخصية القيادية النسائية الكبيرة.

صحيفة اخبار الخليج
19 يونيو 2009