المنشور

اغـتيال الشفافية.. !


سمو ولي العهد رئيس مجلس التنمية الاقتصادية أكد على أهمية تكريس الشفافية والنزاهة للحفاظ على المال العام والحيلولة دون استغلال المنصب العام ومخالفة السياسات العامة المعتمدة. رئيس مجلس إدارة شركة المنيوم البحرين «ألبا» أشاد بالشفافية التي أظهرتها الإدارة العليا للشركة في قضية التسوية التي تمت مع شركة جلينكور السويسرية. وزير شؤون النفط والغاز أكد على أهمية الشفافية واعتبرها عنصراً رئيسياً من عناصر المساءلة والإدارة على صعيد المؤسسات العامة والخاصة وحتى مؤسسات المجتمع المدني. مؤتمر الشفافية في إدارة الأعمال ومسؤولية المؤسسات التجارية التي انعقد بالبحرين مؤخراً، أكد بأن الشفافية والحوكمة في الإدارة ميزة تنافسية وغيابها يسبب انتكاسات.

قبل ذلك أكدت الرؤية الاقتصادية للبحرين 2030 على دور الشفافية في التنمية الاقتصادية، وفي أكثر من موقع شددت الرؤية على هذا الدور سواء على صعيد «إيجاد نظام رقابي حكومي واضح وشفاف»، أو في مجال «المراجعة الشاملة للعمليات والهيكليات التنظيمية لتحسينها وزيادة الشفافية» وأيضاً فيما يخص « تحفيز وتعزيز العدالة التي أكدت الرؤية على إمكانية تحقيقها عبر التزام القطاعين العام والخاص بالشفافية».

 الكل بات يتحدث عن الشفافية أو يطالب بها ووجدنا إلى أي مدى أصبح مصطلح «الشفافية» حاضراً أثناء تناول كل شأن من شؤون الوطن، وقضايا المواطن، وجدنا المطالبة بالشفافية وبقوة خلال إثارة قضايا مثل علاوة الغلاء، الإسكان، التجنيس، البعثات والمنح الدراسية، أعمال المصارف، والشركات والبورصة، وفيما يخص المناقصات، والتقارير المالية للمؤسسات العامة، وحتى فيما يخص الأزمة المالية العالمية كانت المطالبة بالشفافية في التعاطي مع تداعيات هذه الأزمة وفي إجراءات الدولة لاحتوائها، حتى في أعمال مؤسسات المجتمع المدني والتعاطي مع الشأن الوطني كان مطلب الشفافية مطروحاً في كل مرة، كما وجدنا من يدعي وصلاً بالشفافية والتزاماً بها وبمبادئها وبقواعدها ومتطلباتها، واذا كان هناك من يحاول فعل ذلك حقاً، فقد وجدنا بالمقابل من اغتال المعني عن سابق اصرار واكتفى بالاحتماء بالمصطلح.

ليكن معلوماً للجميع أن الشفافية أصبحت في أعمال أي دولة ركناً جوهرياً من أركان تطورها وتقدمها، وبات ينظر لها بأنها حق من حقوق المواطن على الدولة، وواجب من واجبات الدولة تجاه المواطن، ومن يؤمن بالشفافية فهو يؤمن بالرقابة على العمل والأداء العام، وبالمساءلة والمحاسبة الفعالة، كما يؤمن بتقويم الأداء وتصحيحه، وتجنب الوقوع في الأخطاء وتكرارها، كما يؤمن بالتواصل مع الناس، وبتعزيز ثقة المواطن بالدولة ومؤسساتها، وأخيراً فهو يؤمن بأن الشفافية هي عنصر مهم في ترسيخ الديمقراطية.

الشفافية ليست ترفاً بل ضرورة لمن يريد أن يحوز على ثقة المواطن، وثقة المستثمر، وثقة المجتمع الدولي ، وعلى من يرفض الشفافية وفي حق المواطن في أن يعرف عليه أن يتحمل شكوك الناس وحتى إساءة الظن فيه ، فالشفافية تقوم على مبدأ يرتكز بأنه ليس هناك في الشأن العام ما يخفى على المواطن، وهذا يعني أن الشفافية تعني الوضوح، وضوح الوظيفة، وضوح الواجبات، وضوح سير المعاملات، وضوح سير أداء المسؤول دوره، وضوح المصادر، ووضوح الصرف والإنفاق، وبشكل عام وضوح كل مجريات الأمور ذات الصلة بالشأن العام والمال العام.

 والشفافية في أدبيات منظمة الشفافية الدولية لها ارتباط وثيق بالمساءلة والمحاسبة، فمن لا يعرف ماذا يجري لا يمكن أن يحاسب، ومن يعمل في الخفاء خلف أبواب مغلقة لا يريد أن يحاسب ويعمل ما بوسعه للحيلولة دون أن يحاسب أو يساءل، ومن هنا فإن الشفافية والمساءلة تمثلان مساراً واحداً، ففي غياب الشفافية لا يمكن وجود مساءلة، وما لم تكن هناك مساءلة لن يكون للشفافية أي قيمة، ومادامت الشفافية غائبة أو مغيبة لن يكون لأي جهد يبذل لمواجهة الفساد والتصدي للتجاوزات أي وزن أو اعتبار، ومن هذه الزاوية أصبحت الشفافية أهم سلاح في مقاومة الفساد، وكلما تراجعت الشفافية في أي بلد زاد الفساد.

 إذن الشفافية هي من مقومات الدولة الحديثة، وباتت هيبة ومصداقية أي دولة، ودرجة الموثوقية فيها وفي مناخ الأعمال والاستثمار فيها مربوطاً بمدى ما تتمتع به هذه الدولة من شفافية، وأصبحت العديد من الهيئات والمنظمات الدولية بما فيها منظمة الشفافية الدولية، وصندوق النقد الدولي في تقاريرها تدق بعنف شديد أجراس الإنذار لتحذير الدول من مغبة انخفاض أو تراجع مستوى الشفافية فيها، ومع صدور ميثاق الأمم المتحدة لمحاربة الفساد، والاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد التي باتت البحرين على وشك المصادقة عليها فإن مسألة الشفافية لابد أن تأخذ مساراً آخر من الاهتمام يرسخها ويخلق لها حضوراً حقيقياً وملموساً في الحياة العامة في جميع المجالات لتكون اداة فاعلة في الرقابة والمساءلة والمحاسبة والتقويم والتصحيح والتصويب والإصلاح ومحاربة الفساد وإيقاف استفحاله في المجتمع.

دعونا نعود إلى موضوع الشفافية التي قلنا بأنها تعني حقاً من حقوق المواطن على الدولة، وواجبا من واجبات الدولة تجاه المواطن والرأي العام، فمن باب الشفافية التـــي أشاد بها رئيس مجلس إدارة «ألبا» حينما أجرت هذه الشركة تسوية مع الشركـــة السويسريــــــــة «غلين كور العالمية» وتالياً حينما شدد خلال اجتماعه باللجنة المالية النيابية على أن تلك التسوية لم تكن على حساب مصالح البحرين وأنها جاءت من مبدأ مكافحة الفساد، فإننا نرى أن ذلك الكلام الجميل ليس كافيا ليصرف النظر عن اسئلة هي في محلها ووقتها ولابد من مواجهتها حيث لا أحد يعلم تفاصيل التسوية، وحجم المبالغ التي استردت مقابل تلك التسوية؟ وما هي الإجراءات التي اتخذت بحق المسؤولين المتهمين في هذه القضية؟ هل تمت محاسبتهم أو مقاضاتهم؟ ثم التزاماً بالشفافية إلا يحق للمواطن والرأي العام البحريني أن يتساءل ما هي حكاية الشركات الأربع التي تتفــــاوض «ألبا» معها لبحث تسويات أخرى معها، وهل هذه الشركات هي نهاية المطاف ؟هذا ما على الرأي العام أن يعرفه التزاماً بالشفافية، وأيضاً من هذه الزاوية فإن من حق الرأي العام في البحرين أن يحاط علماً بمجريات قضية الفساد المليارية، فهل من يطمئننا بأن القضية لازالت منظورة أمام المحاكم الأمريكية المختصة.
 
صحيفة الايام
19 يونيو 2009